محارب حتى السلام و مسالم حد الموت.
عندما استقبله الملايين بالخرطوم الشهر الماضي، رد على هتافاتهم القائلة لا جنوب بدون شمال ولا شمال بدون جنوب "المهم يكون في سودان" فهكذا كانت دوماً أهداف حركته غير مقتصرة على مطالب الجنوبيين فوصف كثيرا بأنه وحدوي،أضاف "جئت لكي نعمل سوياً..نحقق للسودان نقلة حقيقية لوضع جديد يكون نموذجاً للتاريخ الحديث في المنطقة وأفريقيا والعالم،...سيكون لدي كلام كثير،أتيت فقط لكي أسلم عليكم في المؤتمر وأقول السلام عليكم".
لكن أحدا لم يهمله لينفذ ما قاله أو ليكمل ما أراد قوله يومها في الساحة الخضراء، فقد رحل جون قرنق دي مابيورو لازال يرن في الصدىآخر ما خاطب به الجماهير وجها لوجه "السلام عليكم"،فالسلام عليك أيها الشهيد، و الآن هل نتوجه بعزائنا أولاًللسيدة ربيكا صاحبة الحزن الأكبر بفقدان الزوج و النصير في هذا العالم المليءبصوت الصراخ و هدير المدافع و الملوثة أجواؤه بدخان معارك ما لبثت أن انتهت و أخرى بدأت لتوها،لكم هي قوية هذه المرأة، ترى ماذا قلت أيتها المناضلة عندما أخبروك بأنهم عثروا على جثة الزوج و الرفيق، هذا الذي كان حتما في ناظريك أجمل رجل أزرق بالعالم؟
لقد دعت ربيكا الحكومة والحركة للتمسك بالاتفاقية والتحلي بالشجاعة والقوة في تنفيذها، وأن السلام الذي كان يدعو له الدكتور قرنق سلام حقيقي، وأن قرنق مات لكن نظريته لن تمت وأنها ستتابع نظريته، وأكدت أن قيادة الحركة قوية وجادة في تحقيق السلام في السودان، وان الدكتور كان يقول أن السلام ليس ملكه
بل ملك كل الشعب السوداني.
لا يستطيع المتابع للشأن السوداني أن يخف إعجابه بقدرات هذا الرجل قد كان حتى اللحظة الأخيرة حكيما و حذرا لما بعد رحيله عندما أصر على أن يبقى للحركة جيشها الذي يقارب الـ 100 ألف مقاتل للدفاع عن اتفاقيات السلام إذا نكص عنها الطرف الآخر، متفاديا تكرار ما سماه هوبـ " الخطأ الاستراتيجي الذي وقعت فيه حركة المتمردين الأولى (أنانيا) عندما حلّت جيشها بعد اتفاقية أديس أبابا للسلام عام 1972 مما أعطى الرئيس السابق جعفر محمد نميري الفرصة لعدم احترام الاتفاق ".
و في آخر أيامه ذهب إلى الرئيس الأوغندي موسيفيني ربما ليقنعه مصدقاً أن السلام حقيقي هذه المرة،طوال مسيرته كان لدى قرنق مقربون من الشمال، مستشاره السياسي هو السياسي الشمالي المحنك د. منصور خالد وزير خارجية نظام نميري و الذي وقع معاهدة السلام1972،و هناك أيضا كوماندور ياسر عرمان و آخرون من ملل و نحل السودان، لم تبهره السلطة فعندما أرسلوه ليقضي على قلاقل بالجنوب باعتباره عسكريا في حكومة الخرطوم،ذهب و أنضم للمتمردين لأنه وجد مشروعية لمطالبهم، و طوال مسيرته لم يستخدم قرنق فصيلا أو ميليشيات أو دعم من خارج البلاد ضد فصيل جنوبي رغم تكرار خلافاته مع بعض هذه الفصائل،كما لم يستعد قرنق جيوش دول مجاورة على أي فصيل جنوبي آخر، و الأهم أنه لم يستدع أو يتآمر مع حكومة الخرطوم ضد فصيل جنوبي آخر، كل هذه الأخطاء فعلتها بلا خجل و كررتها غير مرة قيادات حركات قومية أخرى بالمنطقة،لذا ستبقى تداور في مكانها حتى لو وصلت لأعلى المناصب و لن تجد الزخم الشعبي الذي قوبل به قرنق عند عودته من شماليين و جنوبيين، فالشعوب لا تغفر هكذا ببساطة و لا تعلي إلا من يستحق.
و رغم أنه قابل الترابي بعد أن غدر بالأخير صديق الأمس البشير، لكن قرنق أبدا لم يصدر عنه تصريح واحد يجمل فيه تاريخ الترابي الأسود، و لم يفعل مثل آخرين ممن يهللون على الفور لخروج أحد أركان نظام فاشي بسبب اختلاف على تفاصيل لا جوهر، و يقربونهم لهم، و بالمقابل كان متفهما لعودة الكثير من فصائل و قيادات جنوبية عن تعاونها مع حكومة الخرطوم ضد قرنق نفسه، و أدرك أن لحظة تنوير ستحدث ليكتشفوا أن النظام لن يعطيهم سوى الفتات فيعودون له و كان هو بدوره يحسن استيعابهم،صحيح أنه فاجأ المعارضة السودانية باتفاق مشاكوس الذي رحبت به فصائل
و عارضته أخرى، لكنه أبدا لم يفاجيء رفاقه باتفاقات سرية عرجاء تكبل العمل الوطني
لسنوات،كما أنه لم يفاوض سرا على شيء و يعلن تمسكه بآخر، كما فعلت حركات أخرى بالمنطقة.
ثابر قرنق كثيرا و لم يتنازل عن أفكاره العلمانية،طرح فكرة العاصمة القومية لكل السودانيين، لم يتمكن أن يحقق حلمه لكنه لم يتنصل مما طالب به، كان يفكر في الخرطوم و في كل السودان، لم يخن قرنق المعارضة السودانية و لا خرج عن مقررات أسمرا، لم يقم بمغامرات خرقاء كأن يعود للخرطوم دون حساب أو ضمانات ثم بعد أشهر يبكي و يشكو ليظهر في الميديا من جديد باعتباره ضحية تستوجب التعاطف معها.
في يوم تنصيبه نائبا لرئيس الجمهورية لم تصبه عدوى الزعامات المتهالكة فلم يلق كلمة ترحيبية مجاملة و لا عبارات رنانة بل قدم ما يشبه برنامجا للعمل على الصعيد الوطني و الإقليمي،مشيراً لأنه يريد للسودان أن يكون مثالا يحتذى بالقارة الأفريقية التي أرهقتها الحروب و الانقلابات.
لا أحد بوسعه أن ينسى حضور هذا الرجل في ندوة أو احتفالية، قفشاته الحاضرة و ردوده الحاسمة،أتذكر نقلا عن مصدر أنه سمع قرنق يقدم –ربما بسخرية لا تخلو من حكمة - نظريته "كأس الجعة " عن سودان شمالي يحكمه المتأسلمون و جنوب علماني، يشتاق مواطن الشمال لكأس جعة فيذهب نهاية الأسبوع لجوبا – عاصمة الجنوب - لاحتسائها ثم يعود للخرطوم ليفكر أنه آن الأوان ليصبح الشمال هو الآخر علمانيا و يناضل من أجل هذا،في حفل قسم اليمين كنائب للرئيس يفاجيء قرنق الحضور بدعابات روحه المرحة و إذ به يأخذ بيد أكبر مسئول دولي – كوفي عنان – ليعيده لجذوره الأفريقية راقصا معه بكل فرح،كاشفا عن قلب ممتليء بالأمل في غد جديد و مصدقا أن السلام لا رجعة عنه حسبما أعلن مراراً.
كان مبدئيا على الدوام منتصرا لما يدعوه الـ" نيو سودان" أو السودان الجديد، كان يحلم بهذا بثقة المتيقن أنه سيحدث،وصلني الخبر من صديق سوداني فتابعت و صدقت بغواية من قلبي رواية تلفزيون الخرطوم أنه نجا، ففرحت بكل ما أملك من قدرة على تحمل البهجة،في اليوم التالي قرأت الخبر غير مصدقة بغواية من أملي ألا يكون هذا ما حدث، لكن هذا ما كان:رحل الزول السمح إذن.لكنه ترك لنا الكثير من ميراث العمل النضالي في جبهات القتال و على مائدة المفاوضات، ليواصل بنوه – أبناء كل السودان المسيرة من بعده،فلا تخذوله رجاءً.
التعليقات