لقد أصبح خروج المستوطنون من الأراضي الفلسطينية أمراً واقعاً وماكان لهذا المشهد أن يتم لولا وجود مقاومة وتضحيات من قبل الشعب الفلسطيني بكل فصائله وقواه وسواء تم ذلك بما سمي فك الإرتباط أو خطة الإنسحاب لن يغير من الأمر شيئاً ولقد عودتنا سلطات الإحتلال الإسرائيلي أن نتعامل معها ومع كل خطوة تخطوها بشك وحذر شديدين كما هي تتعامل مع العرب عموماً.

وبالنسبة “لإسرائيل” فإنها تريد أن تستغل الانسحاب من غزة، لكي تسوقه بحسبانه تنفيذاً “إسرائيلياً” لقرار مجلس الأمن 242 في صيغته الإنجليزية. ومن الثابت أن الجهات المختصة في “إسرائيل” أعدت دراسة ووثائق قانونية في هذا الصدد، للاستناد إليها في تسويق هذه الحجة بالمحافل الدولية.

وهذا الانسحاب لم يتأتي من فراغ فقد عملت السلطة الفلسطينية بالتنسيق مع الإدارة الأمريكية وبعض الحكومات العربية بعد لقاء شرم الشيخ على تهدئة الموقف ومنع استمرار العمليات الفلسطينية مدفوعة بحرص شديد على عدم استثارة الإسرائيليين وتعطيل عملية الانسحاب، كما جرت إعادة النظر في المواقف السابقة من القدس وحق العودة، وإن لم يتم ذكر ذلك بشكل صريح. وتبع ذلك جملة من القرارات والتشريعات العربية التي تيسر لعملية توطين اللاجئين في الأقطار التي يقيمون بها.

وهناك من يعتبر هذا الإنسحاب هو بداية مرحلة جديدة في الصراع العربي الإسرائيلي وهذه المرحلة أثبتت المقاومة نجاحاً في التعامل معه وأثبتت هذه المرحلة أيضاً أن المفاوضات في أوسلوا لم تساهم في إيجاد تفاهمات مع إسرائيل ولاسيما أن هناك تصريح شهير لداف فايس كلاس مدير مكتب رئيس الوزراء " شارون" الذي قال فيه بأن إسرائيل حالما تنتهي من الانسحاب من قطاع غزة ستحكم سيطرتها على الضفة الغربية وعلى القدس.

كما يجب أن لاينخدع العرب وينسى الفلسطينيون أن هذا الإنسحاب تم في ظروف بالغة السوء بالنسبة للعالم العربي بعد إحتلال العراق وإختلال في موازين القوة، الذي هو لمصلحة “إسرائيل” بامتياز، بفضل المساندة والدعم الأمريكيين بالدرجة الأولى. إذ بسبب ذلك الخلل، فإن الطرف الأقوى سيكون الأقدر على فرض إرادته وإملائها على الآخرين.

وأن لاينسى العرب أيضاً أن هذا الإنسحاب قد تم في حالة من الضعف الشديد في الموقف العربي وعدم تماسكه وفي ظل تزايد وتيرة الإرهاب والضعف الشديد في عموم الموقف العربي وحالة من الخضوع والإستجابة لطلبات الولايات المتحدة، بل إن ثمة عواصم أصبحت لا تتردد في التقرب من “إسرائيل” حتى بمصالحة شارون شخصياً وتوجيه الدعوات له لزيارتها.

وإذا كان هذا الإنسحاب أحادي الجانب في التخطيط وفي التكتيك وفي أسلوب المناورة، فلابد أن يكون إنجاز مسموم وبحاجة الى إيجاد المصل المضاد لنتجنب مخاطره وإذا كانت العرب تقول إن الحرب كر وفر فالإنسحاب الإسرائيلي سيتبعه تقدم فلسطيني فالمعيار النسبي هنا هو خطوة فلسطينية الى الأمام ولكن هل سيتبعها خطوات الى الوراء من الجانب الإسرائيلي أم من الجانب العربي ؟ !.

فإسرائيل تريد مقابل الإنسحاب الجزئي تطبيع كامل للعلاقات مع العالم العربي، و ليس سراً أن تسويق العملية بدأ بالفعل. وإذا كان وزير الخارجية “الإسرائيلي” سيلفان شالوم قد تحدث عن “طفرة” في العلاقات العربية “الإسرائيلية” هذا العام، فان وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس فصلت في الأمر، حين أعلنت في تل أبيب (يوم 22/7/2005) أن الإدارة الأمريكية قررت أن تؤدي دوراً نشطاً لإعادة العلاقات المقطوعة بين العرب و”إسرائيل”، بعد الانسحاب من غزة.

وعليه تقترح الولايات المتحدة بدخول بعض أطراف عربية في اللجنة الرباعية كما إقترحت عقد مؤتمر دولي، تشارك فيه عدة دول عربية ليتم التطبيع ثم التجنيس وهو ما يثير التوجس ويبعث على القلق أن تلك الضغوط تمارس في أجواء من عدم الممانعة، يخشى في ظلها أن يقع العرب في الكمين ويبتلعون الطعم المسموم، بحيث ينتهي بهم الأمر إلى الانصياع و الاسهام في إجهاض الحلم، عبر ادراج تسويغ التطبيع والتجنيس والتوطين بعد الانسحاب من غزة.

ما تسعى إليه إسرائيل هو تفتيت الشعب الفلسطيني وصهر هويته لتذوب في مجتمعات وقعت إتفاقيات سلام معها لضمان عدم العودة وإظهاره للعالم بإن هذا الشعب هو شعب ضعيف وغير قادر على حكم ذاته وبالتالي لا يستحق أن يدير دولة، وما تقوم به إسرائيل هو تجسيد وتأكيد لإرادتها في هذا الاتجاه،وتؤكد على أهمية تفكيك المخيمات كوسيلة عملية للقضاء على المقاومة.

وهناك من يعتقد إن الإنسحاب من قطاع غزة على أهميته ليس إلا اللبنة الأولى نحو التحرير الكامل، ولاشك أن الإنسحاب سيترك عبئاً ثقيلاً وعملية تتطلب كل العناية ووحدة هذا الصف وأيضا فكر سياسي عقلاني تصالحي، ولكن ينبغي أن لايتوهم الفلسطينيون أن إسرائيل بإنسحابها من قطاع غزة ليس بفعل ضربات المقاومة فقط وإنما ايضاً للتخلص من الثقل السكاني الفلسطيني (يعيش في القطاع مليون وحوالي 300 ألف نسمة)، وهو الهاجس الذي يؤرق “إسرائيل”. إذ بعد الخروج من غزة فان الصراع يحسم ديموجرافياً لمصلحة إسرائيل داخل الأراضي التي تريد الإحتفاظ بها.

وهناك سبباً آخر وهو انعدام الفائدة الاستراتيجية لقطاع غزة بالنسبة لإسرائيل فهذا القطاع كان ومازال يشكل عبئاً إقتصادياً وأمنياً لإسرائيل سواء من حيث الموقع، أو الحجم (مساحته 365 كيلومتراً مربعاً، مثل 6% من الأراضي التي احتلت عام،67 كما انه اصغر من أي محافظة في الضفة الغربية).

ومن المفارقات العجيبة أنه في عهد شارون عندما كان وزير البنية التحتية وسع وبنى مستعمرات جديدة وزاد حجم الإستيطان وها هو اليوم يأمر بتفكيك المستوطنات والإنسحاب من قطاع غزة ليعيد إنتشارها وبناءها من جديد في مكان آخر وهو رئيس وزراء، وهو اليوم يحاول إستكمال بناء الجدار العازل ليعيش شعبه في منطقة قابعة خلف الجدار ليحميها من شباب الإنتفاضة اللذين بثوا الرعب والإرهاب في قلب العدو.

وخرج من القطاع الذي يسبب له مآسي وآلام على مستوى أمني وسياسي وعسكري أيضا وبالتالي لا يريد أن يصل إلى حل، ولكن الخروج من قطاع غزة هل يعني أن الأرض تم تحريرها ؟ بالطبع لا، ولذا ينبغي أن يكون خيار المقاومة هو الخيار الأمثل وليس السعي خلف إسرائيل للوصول معها إلى حل طالما أنها لا تريد أن تصل إلى حل ونحذر من هذه الحلول السرابية.

المطلوب الآن ترميم البيت الفلسطيني لإدارة المناطق التي سيتم إزاحة الاحتلال عنها جزئيا، وترميم ما خلفه الاحتلال من دمار ولتقوية برنامج المقاومة في التعليم وفي الصحة وفي الزراعة وفي الصناعة وفي الاستثمار وغيرها، ومن هنا يأتي إجماع على عدم السماح بسرقة أو سوء التصرف في هذه الأراضي التي سيتم إزاحة الاحتلال عنها.

كما تم الإجماع أيضاً على عدم توزيع الأراضى على أصحاب السلطان والنفوذ وأتباعهم ولا على هذا الفصيل أو ذاك. الإجماع يريد أن تبقى هذه الأراضي وديعة حتى تأتي الحكومة المنتخبة لتتصرف فيها، الانتخابات ليس المقصود منها أن تفرز سلطة أو حكومة تتعاطى مع الوضع الراهن لتنفيذ المطالب الإسرائيلية والضغوط الأميركية التي تسمى خارطة الطريق التي قد تسبب أزمة داخل الشارع الفلسطيني ليقتتل الفلسطينيين تحت اسم القضاء على الإرهاب وسلطة واحدة وسلاح واحد.

إن التحدي أمام الفلسطينيين هو وضع برنامجا انتخابيا توافقياً يُجمع عليه الشارع الفلسطيني يضع في خياراته كل البدائل الممكنة والمتاحة والإجماع يقول إن الانتخابات لا تعني الدخول في حكومات تستجيب للمطالب الإسرائيلية ولكن تستجيب للمطلب الوطني الذي يدافع عن الأرض ويطوِّر طرق إزاحة الاحتلال عن قطاع غزة والضفة الغربية إلى مساحات أخرى حتى يستطيع هذا الشعب أن يصل إلى مستوى الحد الأدنى المتفق عليه.

والفلسطينيون أمام واقع مترد أمنيا في داخل قطاع غزة فهناك طفرة من الجماعات المسلحة ولكي يكون السلاح مشروعا لابد أن يكون المعيار موحد بين جميع الفصائل الفلسطينية وأن يكون المعيار هو الاعتقاد بأن السلاح هو سلاح مقاومة فقط ولابد أن يكون موجود لأن حركة التحرير الوطني الفلسطيني لم تحقق أهدافها بعد.

وينبغي على أي جهة فلسطينية أن لا تسعى لخدمة الأمن الإسرائيلي بل تسعى لخدمة الشعب الفلسطيني أينما وجد. والتركيز الآن يجب أن يكون على الانسحاب وعلى مابعد الانسحاب ولسيتمر الحوار بين الأشقاء والشركاء في التحرير للخروج بإدارة سليمة وشفافة ومنطقية وعملية للأراضي المحررة.

ولن يعتبر الإنسحاب من قطاع غزة إنسحاباً كاملاً لثلاثة أساب وهي :

1- لاالزالت إسرائيل هي المسيطرة على المعابر البرية.

2- لازالت إسرائيل هي المسيطرة على الأجواء والتحكم في المطار.

3- لازالت إسرائيل هي المسيطرة على الشواطيء والموانيء والتحكم فيها.

مصطفى الغريب – شيكاجو