ليس فى الأمر ما يستعصى على فهمكم -لاسمح الله - بنى جيرتى، وأنتم من ترددون فى أدبياتكم على الدوام
أن المؤمن فطن - وكلكم بالطبع مؤمنين لاشك فى ذلك -وأنكم من تقيلون العثرات ومن تقفون فى الملمات. أكرموا عماتكم النخيل وكونوا خير مستصرخ وإن لم تسطعوا فساندونى بصمتكم وإكفونى مؤنة التشفى فى مواضع النجدة، وباعدوا بينى وبين شماتتكم فى حوادث تستحق حكمتكم. لماذا تروغون منى وأنا الذى لم أطلب من طرف لسانكم حلاوة أو ملحا. لماذا تصرون على إفراغ مخزون عجزكم فى حجرى غبارا ودماءا وأكاذيبا. صمتكم جبن، وتشفيكم عجز، وقولكم نفخ فى نار مأساتى،أما شماتتكم فهى خوف من المجهول حين تدور الدوائر وتكوى النار كل الأصابع.
حال العراق وحال العرب كله عجب، العراقيون بمللهم ونحلهم وأطيافهم يتحلقون حول المائدة من أجل عراق واحد يحتفى بالمساواة ويجعل من تنوعه مزية لا نقيصة بينما العرب يلعنون المائدة نفسها والمتحلقين حولها، ثمة مايزعجهم فى هذا الإلتئام، تتطاير التصريحات من مقر بيت العرب مستخفة بمسودة الدستور، بينما تسلط الحكومات إعلامها بغوغائية لتسويق مشروع الدستور على أنه تكريس للفوضى، فتخرج العناوين تعبوية عنترية وتنطلق المواقف من رؤى قطرية ملتبسة، ويختلط فى الأذهان مشروع الدولة المدنية بتحريض المتأسلمين والجهاديين وراكبى مطية الأيديولجيا، ويرتدى الإرهاب زورا قميص المقاومة، ويختلط دم الأبرياء بأحبار المطابع الحمراء وهى تسمى المجرم مقاوم وتسمى المنتحر إستشهادى وتستوى فى غرف الديسك المركزى لجرائدنا اليعربية ومنصات الفضائيات أشلاء الأبرياء الممزقة على الطرقات بإطارات الكاوتشوك المحترقة إن لم تكن الإطارات أغلى.
كنا مجموعة من الشرق أوسطيين نترقب موعد مباراة فى كرة القدم فى تصفيات كأس العالم بأسيا حين جاء نبأ عاجل بعملية إنتحارية فى وسط بغداد وخرج التعليق عفويا من رفيق يشاركنا : ( يا الله.. مرسيدس سى كلاس الجديده...!! ) لم ير الرجل فى المشهد عشرات الجثث والكاميرا تنتقل الى المستشفى وسط صراخ الأمهات وبكاء الأطفال سوى أن أداة التفجير كانت مرسيدس فخمة من الخسارة أن تضيع فى تفجير كهذا، تنبه الرجل بعد ذلك وأحس بالحرج فعلق:( وشو تكون المرسيدس جنب المساكين اللى راحو...... أخت هيك دنيا ). بالأمس حلق طائر الإرهاب الأسود ليحصد مزيدا من الأرواح البريئة من النساء والأطفال الشيعة المحتفلين بذكرى الإمام الشيعى موسى الكاظم، كان عدد الأرواح البريئة التى أزهقت قد قارب السبعمائة حتى كتابة هذه السطور وهو بالطبع مرشح للتضاعف ليصبح 11 سبتمبر جديد. أكاد أعرف مقدما كيف سيتعاطى الساسة والإعلام العربى مع حادث جلل كهذا وأكاد ألمح الضيوف المزمنين للفضائيات وهم يتزاحمون ويتصاخبون على الهواء مباشرة، ستمر مأساة جسر الأئمة كغيرها من المأسى التى مرت والأسوأ الذى بشرونا بأنه لم يأت بعد، يأتى كل يوم، ويبدو أن النحو
والبلاغة العربية بحاجة الى صيغ أقوى من أفعل التفضيل وكل صيغ المبالغة ( كأسوأ ) للتعبير عن عبثية المشهد وبلادة المشاهدين. كم من الأرواح البريئة ينبغى أن تغسل دماؤها الشوارع حتى نطمئن الى أن الأسوأ قد مر بالفعل وأن الأفضل هو القادم.
ولايختلف حال نخبنا وساستنا وإعلامنا الضبابى فاقد الرؤية عن حال المجموع العربى المغيب بالشحن الدينى والقومجى، فالساسة لم يتجاوزوا دخان سجائرهم الكسلان وهم يطلقون التصريحات حول فوضى المشهد العراقى ورؤيتهم العاجزة للحل التى طرحوها بعدما سحبوا نفسا طويلا زادهم إنتفاخا على إنتفاخ وتباهى بعضهم بأنه وببصيرة لقمان الحكيم وبصر زرقاء اليمامة قد إستشرف الحوادث قبل وقوعها وعلم بالمكنون قبل إنكشافه وأنه حذر من التداعيات، وسياسى أخر يذكر الناس بمواقف دومنيك دوفلبان ويوشكا فيشر فى الأمم المتحدة عام 2003 من معارضة التدخل الأمريكى فى العراق ولانملك إلا الضحك فى زمن شر البلية،من ساسة ونخب فى جاهزية دائمة لإعادة إنتاج إدانات جديدة لفورستر دلاس وهنرى كسينجر وأندريه جروميكو على مواقف دخلت المتحف منذ عقود، فنحن على مشارف العام 2006 وقد تجاوزت أوربا كلها مواقفها بشكل براجماتى وأبدت رغبتها فى التعاون من خلال الدول المانحة وكذا تدريب الأمن العراقى والإسهام بشكل لوجيستى فى إستتباب النظام وهيكلة مؤسسات عراقية وإعادة تأهيل مؤسسات أخرى. تجاوزت أوربا إختلافات الأمس وتحركت بشكل عملى للبناء على المنجز الكبير
الذى تم بإزاحة الديكتاتورية من العراق، لكن العرب بقيوا متمترسين فى نفس المربعات التاريخية، فى نفس المنطقة الرمادية الدافئة التى توازن بشكل بهلوانى بين صخب الشعوب وهوسها العقائدى والعروبى وبين علاقات دولية تحتاج قدرا من النفاق وقليلا من الوضوح، فيصبح السياسى العربى تارة خطيبا فى صلاة جمعة يرعد صوته بأدبيات الجهاد مستدعيا إبن كردستان التاريخى صلاح الدين وأبن تتارستان المظفر قطز ليصبحا أيقونة للزار الأيديولوجى العروبى المنصوب، وترى نفس السياسى يتحدث فى حديقة البيت الأبيض عن الديمقراطية والعراق الجديد والمساعدات التى قدمتها وستقدمها بلاده لدعم التحول.
كنا نتمنى وبعض التمنى وهم أن يتجاوز العرب مربع المشاهدة والتشفى بمد أياديهم بالمساعدة بتقديم دعم فنى وعملياتى للحكومة المنتخبة ليشتد عودها وتنقذ الدول العربية نفسها أولا من مصير أن يصبح العراق جنة للأرهاب الذى قد يطال شوارعهم وغرف نومهم بعد سنوات. كنا نتمنى أن توقف الدول العربية – وهذا أضعف الإيمان – الشحن والتهييج الذى تتبناه ألتها الأعلامية والدينية وهى تقدم مجانا كل صباح دعمها المعنوى وربما – من يدرى – دعمها الحدودى للزرقاوى ورفاقه وهى تزيد - تدرى أو لاتدرى - من رقعة المساحة التى يحتلها الزرقاوى وبن لادن فى الوجدان الجمعى للجماهير المشبعة بالتهييج الدينى،لا أعرف بالطبع ماهو عدد الأصوات الإنتخابية التى قد يحصل عليها ( فضيلة الشيخ ) أبو مصعب لو رشح نفسه فى أى إنتخابات بدولة عربية مازالت موضوعة على جهاز الشحن إذا لاننسى فى هذا السياق أن مرشحى إنتخابات الرئاسة المصرية قد حجوا الى المقر الرسمى لمرشد جماعة الإخوان لنيل البركات الإنتخابية بمن فيهم ( الليبرالى ) أيمن نور وكلنا يعرف تاريخ جماعة الإخوان فى العمل ( السرى) منذ إغتيال النقراشى والخازندار وماتلاهما برغم ماقيل ويقال عن
(مراجعات) تكتيكية وإرتداء جلباب التقية للوصول الى الكرسى الكبير والكراسى المحيطة به. دعونا من موضوع العروبة والجوار، فقط كنا نتمنى أن يتعامل العرب مع العراق بشكل براجماتى كما تنوى أوربا والدول المانحة، بشكل يحسب للمستقبل حساباته حيث العراق كيان إقليمى هام وثمة فرص لتعاون مستقبلى معه، هذه الفرص تحتم تغليب المصلحة المستقبلية بالمساهمة فى بناء عراق حر متنوع يحترم تعددياته الإثنية من منطلق المساواة ولاشىء غير المساواة.
كنا نتمنى أن تبادر جامعة الدول العربية بأضعف إيمانها ونسمع خبرا مثلا مؤاده أن وفدا من الخبراء القانونيين بالجامعة قد هم الى العراق لتقديم مساعدات وخبرات إستشارية تساعد فى الصياغة،أو أن بعض الأطراف العربية ذات التأثير على تكتلات بعينها فى العراق قد أرسلت وفدا للنوايا الحسنة لتقريب المواقف، كنا نتمنى دعما قانونيا وتشريعيا ولوجيستيا لا يمن به المانحون على العراق ولايفرضون به رؤاهم القطرية ولايسعون من ورائه الى إنتزاع ولاءات مجانية بالداخل العراقى فكفانا لبنان والثمن الذى دفعه.
العالم العربى لايرى فى العراق إلا صورة الخاطئة التى ينبغى رجمها فى ملأ وليشهد عذابها كل طوائف المؤمنين والحمد لله العالم العربى كله من المؤمنين، ترجم الخاطئة حتى تموت.. تموت تماما وتنسى حلمها بالحرية لأنها لوعاشت وإشتد عودها ستفضح عوارهم وتكشف خباياهم وتعريهم من أطنان المدبجات البلاغية والمتون والشروح والحواشى والإعجازات التى يلكونها مع مطلع كل شمس فى الميكروفونات والفضائيات وتراق من أجلها فى وجوهنا كل صباح براميل من حبر المطابع. العراق ليس خاطئة تستاب وتعتذر للعالم العربى لأن ذنوب العالم العربى أكبر من أن يسعها العراق.
لو تركت أوربا وأمريكا بعد الحرب العالمية الثانية ألمانيا تلعق جراحها وتحترق جزاء نازيتها لأصبحت ألمانيا وحشا بغيضا يأكل أوربا، لكنهم بادروا وأقالوها وهى المهزومة من عثرتها بمشروع مارشال لتنهض وتحلق فى إهاب السرب. من أجلنا ومن أجل أولادنا أقيلوا عثرة عماتكم النخيل، أقيلوا عثرة العراق، إن لم يكن مشاركة فى الجغرافيا والتاريخ والوهم والخرافة والمجد المزعوم فمشاركة فى الخوف،الموقف يستدعى أن نخاف جميعا. جسر الأئمة لايؤدى الى الكاظمية حيث ضريح الإمام موسى الكاظم فقط، جسر الأئمة قد يؤدى الى العواصم والحواضر التى تستمتع اليوم بالمشاهدة والتشفى وإطلاق التصريحات الفارغة مع دخان السجائر وموجات البث الفضائى.
كاتـب من مصر... [email protected]
Ayman Al Simery
التعليقات