طالما اعتبرت حالة الاختلاف سببا رئيسيا للكثير من مشاكلنا الاجتماعية والسياسية وحتى الدينية منها، والسبب يكمن فيما اعتقد في اننا لم نضع مسألة الأختلاف في موضعها الصحيح والبسناها ثوبا مشوها غير ثوبها، بحيث اصبحت نظرتنا لهذه الظاهرة نظرة المتهم لها بأنها وراء كل ماهو سلبي في حياتنا، لكن الحقيقة غير ذلك فالأختلاف امر فطري في الأنسان اذ لايمكن ان نتصور نموذجا لبشر متشابهين ومتطابقين في كل شيء، في تفكيرهم،، قناعاتهم،، طرق معيشتهم،، الخ و انما خلق الله تعالى البشر مختلفين لا ليتناحرو و يتنازعو وانما ليتعارفو( يا ايها الناس انا خلقناكم من ذكر وانثا و جعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ان اكرمكم عند الله اتقاكم ان الله عليم خبير)، و النقطة الجوهرية التي تجعل الاختلاف وسيلة للبناء والتطور وتلاقح الافكار و( التعارف) و اخيرا تجعله ظاهرة ايجابية هي عدم الغاء الاخر الذي نختلف معه وبالعكس تحول الاختلاف الى اداة هدم و تخلف و تنازع و فشل في حالة الغاء الاخر و عدم قبوله والاعتقاد اني امتلك الحقيقة المطلقة التي يجانبها كل من يختلف معي وقد ابدع القران الكريم في قبول الاخر وانصافه وعدم الغائه و ذلك حينما يتحدث عمن يختلف معهم كاهل الكتاب فيقول تعالى(ومن اهل الكتاب من ان تامنه بقنطار يؤده اليك،،الخ) 75 آل عمران، وفي نموذج آخر لايخلو من الدلالة على مانحن بصدده نجد ان القرآن الذي يتشدد الى اقصى حد في حربه على الخمر والميسر ولكنه حين يتعرض لهما لايعتبرهما شر مطلق ويلغي كل مايمكن ان يحققاه من فوائد وان كانت يسيرة ولا تستحق ان تذكر لكنه وانطلاقا من الاعتراف بكل ما يمكن ان يسجل لهما يقول جل وعلا ( يسئلونك عن الخمر والميسر قل فيهما اثم كبير ومنافع للناس وإثمهما اكبر منهما،، الخ)219 البقرة،

وعند العودة الى مدرسة اهل البيت (ع) والتي هي خير من يترجم مفاهيم القرآن الكريم سوف نقف على نماذج رائعة للتعاطي مع مسالة الاختلاف، ففي نموذج منها يتعلق ببني فضال وهم أهل بيت علم بالكوفة ومن اتباع مدرسة اهل البيت (ع) الا انهم اعتقدوا بامامة عبد الله الأفطح بن الامام الصادق (ع) بدل الأمام الكاظم (ع) وبالتالي انحرفوا عن خط الامامة الصحيح، وهؤلاء لهم كتب في الفقه كثيرة منتشرة في بيوت الشيعة فجاء هؤلاء يستفهمون من الامام العسكري (ع) حول كتب بني فضال ماذا نصنع بها وبيوتنا منها ملاء ؟ والجواب الذي يقتضيه اسلوب الألغاء وعدم الأعتراف بالآخر ان يقول الأمام (ع) ان هؤلاء منحرفون كافرون احرقوا كتبهم ولا تدعوها في بيوتكم فأنها كتب ضلال، ولكن للأ مام (ع) رأي آخر يقر الأختلاف ولا يلغي من يختلف معه بل ينصفه غاية الأنصاف، فيجيبهم بجواب فيه درس بليغ لنا قبل غيرنا لأننا من اكثر الناس تمسكا بثقافة الألغاء في حق من يختلف معنا مع الحزن الشديد، قال (ع) : ( خذوا مارووا وذروا مارأوا ) انهم مع انحرافهم العقائدي صادقون متدينون لايتعمدون الكذب فلابأس بالأخذ برواياتهم، ياله من مبدأ حضاري راق، لك ان تتصور قارئي العزيز شكل مجتمعنا في حال ساد بيننا هذا المبدأ، وكيف يمكن ان نبقى اصدقاء ونحن مختلفون في الرأي ؟ والى متى نبقى متباغضين،، متشنجين،، متحاقدين،، متنازعين للأننا مختلفون ؟ اليست مفارقة ان تكون سنة من السنن التي فطر الله سبحانه الأنسان عليها اعني بها الأختلاف سببا للكثير من مشاكلنا ومآسينا ونزاعاتنا ؟،

لقطة اخرى في تراث اهل بيت النبي (ع) لاتقل روعة عن سابقتها ان لم تفقها خصوصا اذا عرفنا ان الآخر هنا اشد انحرافا بل لاتجوز المقارنة بينهما، فالآخر هنا ملحد، منكر لوجود الخالق جل وعلا اي انه يقف على النقيض تماما، لايجمع بينه وبين الأمام من أهل البيت (ع) اي جامع، القضية حدثت في مسجد النبي (ص) حيث كان المفضل بن عمر ـ من أصحاب الأمام الصادق (ع) ـ جالسا في الروضة بين القبر والمنبر اذ اقبل شيخ الملحدين آنذاك ابن أبي العوجاء فجلس وتكلم مع اصحابه كلاما فيه انكار لنبوة الخاتم (ص) وتشكيك بالوحدانية بل بوجود الله تعالى،يقول المفضل : فلم اتمالك نفسي غضبا وغيضا وحنقا فقلت : ياعدو الله الحدت في دين الله وانكرت الباري جل قدسه الذي خلقك في احسن تقويم وصورك في اتم صورة ونقلك في احوالك حتى بلغ الى حيث انتهيت، فلو تفكرت في نفسك وصدقك لطيف حسك ـ واخذ يحاججه ـ، استغرب ابن ابي العوجاء من هذا الاسلوب خصوصا انه يصدر من شخص محسوب على الامام الصادق (ع) الذي لم يكن يواجه من يختلف معه بهذا الاسلوب بل بالأسلوب الحضاري الذي ارتضاه الخالق جل قدسه لنبيه (ص) وهويحاور المشركين (قل من يرزقكم من السموات والأرض قل الله وإنا أو إياكم لعلى هدى او في ضلال مبين ) سبأ 24 ولطالما دخل الأمام (ع) في مناظرات مع هؤلاء فلم يغلظ لهم بل كان ينصفهم ويستمع لهم، فقال ابن ابي العوجاء : ياهذا ان كنت من اهل الكلام كلمناك فان ثبتت لك حجة تبعناك وان لم تكن منهم فلا كلام لك، وان كنت من اصحاب جعفر بن محمد الصادق فما هكذا تخاطبنا ولا بمثل دليلك تجادل فينا، ولقد سمع من كلامنا اكثر مما سمعت فما افحش في خطابنا ولا تعدى في جوابنا وانه الحليم الرزين العاقل الرصين لايعتريه خرق ولاطيش ولانزق، يسمع كلامنا ويصغي الينا ويتعرف حجتنا (رغم انها حجة على الكفر والإلحاد ولكنه كان يحترمها ويصغي إليها مادام الجو يسوده البحث العلمي ويحكمه الدليل والبرهان ) حتى اذا استفرغنا ما عندنا وظننا انا قطعناه دحض حجتنا بكلام يسير وخطاب قصير يلزمنا به الحجة ويقطع العذر ولا نستطيع لجوابه ردا (هذا كان اسلوب جعفر بن محمد معنا حين كنا نختلف معه ) فان كنت من أصحابه فخاطبنا بمثل خطابه،،

فإذا كان الإمام المعصوم الذي لا يخطأ ولا يشتبه يتعامل بهذا الانفتاح والأريحية وبهذا القدر الهائل من الإنصاف أليس الاحرى بمن رأيه معرض للخطأ والاشتباه أن يقبل الرأي الآخر ويحترمه بل ويعترف بوجوده حتى لو كان رأيا يتناقض مع ما نتبناه مئة بالمئة اقصد حتى لو كان رأيا إلحاديا ونتعامل معه كما كان الصادق (ع) يتعامل مع آراء ابن أبي العوجاء ؟

ونجد بصمات رائعة وآثار واضحة لمثل هذا النهج في التعامل مع الرأي الآخر في سفر علماء مدرسة اهل البيت (ع)، يروي المرجع الكبير السيد هبة الدين الشهرستاني يقول: كنت ذات يوم في منزل الشيخ الآخند الخراساني في النجف الأشر ف حين بدأت ثورة المشروطة في إيران ووقع الاختلاف بين العلماء الذي كان يتزعمه العالمان الآخند من جهة والسيد كاظم اليزدي من جهة اخرى، وكانا على طرفي نقيض في مواقفهما وصار كل منهما زعيما لتيار يتبنا رأيه، يقول الشهرستاني : ففي ذلك اليوم جاء احد السادة الى منزل الآخند وقال له : انا اقلد السيد اليزدي واردت ان اجري معاملة مع فلان فأخذت له ختم وامضاء اجازة السيد اليزدي وحيث انه يقلدكم فلم يوافق وقال : ائتني باجازة الآخند، فقطع استاذنا الآخند كلامه وقال : اذهب وقل له يقول لك الآخند : اذا كنت واقعا تقلدني فيجب ان تضع ختم السيد اليزدي وامضاءه على رأسك وتطيعه فورا،هذا هو الاسلوب الذي يمثل نهج اهل البيت (ع) والذي يشعر معه الانسان بالامل ان الامة لازالت تحتفظ بفكرهم وتراثهم، فمدرسة اهل البيت،، تعتبر ان الاختلاف حق تقتضيه انسانية الانسان وليس امر طاريء عليها، فهل يمكن ان يرقى اتباع هذه المدرسة العملاقة الخالدة بكل طبقاتهم وشرائحهم الى هذا المستوى من الرقي والسمو؟،

(1) توحيد المفضل 41

(2) سيماء الصالحين
E-mail: modhar_alhilou@hotmail،com