من لم يدخل الكوفة ويشرب من ماء الفرات لم يقرأ القرآن اضطلعت الكوفة منذ تمصيرها سنة (7 1هـ) بدور خطير في صياغة احداث التاريخ الاسلامي، وفي بلورة المذاهب الفكرية والعلمية للمسلمين وعلى صعد اخرى مختلفة.
الدور السياسي: تأسست الكوفة على يد القائد الاسلامي سعد بن ابي وقاص بعد الانتهاء من معركة القادسية، وكانت نقطة انطلاق الجيوش الاسلامية الفاتحة المتجهة شرقاً نحو بلاد فارس، وغرباً نحو بلاد الشام حتى «ان المتتبع لحركة الفتح الاسلامي ليجد ان الكوفة لعبت دوراً خطيراً في هذه الحركة وان الكوفيين قاموا بدور فعال فيها»(1) ففي السنة من تأسيسها بقليل مد الخليفة عمر بن الخطاب ابا عبيدة بن الجراح الذي كان بحمص، أربعة آلاف من اهل الكوفة، وفي السنة نفسها ـ اي سنة ( 18 هـ) على قول الطبري (2)، وسنة ( 19 هـ) على قول بن اسحاق ـ تم لجند الكوفة فتح الجزيرة واخضاعها، وفي هذه السنة نفسها اشتركت حامية الكوفة في فتح رامهرمز والسوس وتستر ونهاوند التي استشهد فيها القائد الكوفي المسلم النعمان بن مقرِّن. فكان عمر بن الخطاب يقول:«جزى الله اهل الكوفة خيراً يكفون حوزتهم ويمدون اهل الامصار»(3) وتستمر مشاركتهم الواسعة في حركة الفتوح ايام عمر، وكذلك ايام عثمان حيث كانت مغازيهم الري واذربيجان فكان ستة آلاف منهم في أذربيجان وأربعة آلاف في الري. ويبقى هذا الدور مستمراً فيما بعد.
ولم يقتصر دور الكوفيين على المشاركة في حركة الفتوحات بل ايضاً كان لهم الدور البارز في الاحداث الداخلية التي تمثلت في قتالهم ضد الخوارج والذي بلوا به بلاءً حسناً فقاتلوهم في الاهواز السنة الثانية والسبعين وفي البحرين السنة الثالثة والسبعين، وفي الموصل (4)، وكانوا السبب الرئيسي للنصر في اغلب هذه الوقائع.
دورها السياسي: كان للكوفة دوراً رئيسياً في الاحداث التي جرت في عهد الخليفة الثالث عثمان والتي انتهت بمبايعة الامام علي (ع) وانتقاله للكوفة واتخاذها عاصمة الدولة الاسلامية، بالخلافة وناصر اهل الكوفة الامام علي (ع) ضد الخارجين عليه وكانوا يقولون «سر بنا يا امير المؤمنين حيث احببت فنحن حزبك وانصارك نعادي من عاداك ونبايع من اناب اليك والى طاعتك»(5)، فكان اقوام جيشه من اهل الكوفة، بل ان قواد كتائبه كلهم من الكوفيين وقد ذكر صاحب (الامامة والسياسة) ثبتاً بأسماء هؤلاء القادة(6). استجاب له من اهل الكوفة سبعة الالف رجل، وقيل تسعة الاف رجل، وقيل اثنا عشر رجل. وقد وصف الامام (ع) استجابتهم هذه بقوله:«فاستغفركم بحق الله وحق رسوله وحقي فاقبل الي اخوانكم سراعاً حتى قدموا عليّ فسرت بهم حتى نزلت ظهر البصرة..»(7)
ثم جاءت صفين وكان الكوفيون يشكلون عماد جيش الامام (ع) وكذلك الحال في النهروان. ولقد عبر الامام (ع) عن تقديره لموقف اهل الكوفة في نصرته بقوله:«يا اهل الكوفة انتم اخواني وانصاري واعواني على الحق وصحابتي على جهاد عدوي المحلين بكم اضرب المدبر، وارجو تمام طاعة المقبل»(8).
وهكذا ظلت الاحداث تتفاعل في الكوفة، حتى اغتيال الامام علي(ع) في الكوفة، وجاءت خلافة الامام حسن (ع) وكانت في الكوفة ايضاً، وهدد معاوية بغزو الامام (ع) فجهز له جيشاً من الكوفيين، وحصلت الهدنة بعد ذلك ودخل معاوية الكوفة، واستمرت الاحداث متلاحقة بها الى ان تحرك الامام الحسين (ع) للثورة ضد الامويين فكانت الكوفة مركز حركته، واهلها هم وقودها، وبدأ بعد ذلك مسلسل الثورات على الامويين، وكان للكوفة النصيب الاوفر منها، فمن ثورة عبد الله بن عفيف الازدي الى ثورة التوابين ثم ثورة المختار، وثورة مطرف بن المغيرة، وهكذا الى سقوط الدولة الاموية حيث كان لأهل الكوفة الدور الاساسي في تلك الاحداث جميعاً. واستمر الحال الى ما بعد ذلك حتى فترة العباسيين والكوفة تغلي كالمرجل.
دور الكوفة فكرياً: فمنذ ان نزل الكوفة ثلاثمائة وسبعون من اصحاب الرسول (ص) منهم ثلاثمائة من اصحاب الشجرة، وسبعون من اهل بدر(9) والحركة العلمية مستمرة لم تفتر. ففيها ولدت ونشأت المذاهب الفقهية، والتيارات العقائدية، والاتجاهات التفسيرية، وعلوم القرأن، وعلوم اللغة والادب. ومراجعة سريعة في غضون تراجم الكوفيين يتوقف الباحث على حقيقة ذلك. حتى صار الدخول الى الكوفة وحمل العلم فيها سمة تميز طالب العلم على اقرانه، يقول ايوب بن المتوكل( 10 ) وهو من علماء البصرة وقرائها توفي 200 هـ: «من لم يدخل الكوفة ويشرب من ماء الفرات لم يقرأ القرآن»(11).
ولطالما تمر عليك في كتب التراث امثال هذه العبارات «كان يتفقه على مذهب الكوفيين» و«كان اماماً على مذهب الكوفيين» وغير ذلك. وفي الكوفة نثر الامام علي بن ابي طالب درره ولآلئه التي يعكس لنا بعضها كتاب (نهج البلاغة)، وفيها اسس الامام جعفر بن محمد الصادق (ع) (توفي 841هـ) مدرسته ذات الاربعة آلاف طالب علم ( 12 ) والتي ظلت آثارها فيما بعد اذ يقول الحسن بن علي الوشاء( 13 ) «..فأني ادركت في هذا المسجد- مسجد الكوفة تسعمائة شيخ ( 14 ) كل يقول حدثني جعفر بن محمد(ع) ويقول محمد بن يزن: «ادركت بالكوفة اربعة آلاف شاب يطلبون العلم» ( 15 ) وفي الكوفة ايضاً تأسست مدرسة الامام ابي حنيفة وقد تميز المذهب الكوفي بدور الابداع في التصور في الادوار الثقافية العربية كافة»( 16 ). ولم تبق هذه الحركة حبيسة في الكوفة بل خرجت منها ليشمل تأثيرها باقي الحواضر الاسلامية فما من حاضرة من هذه الحواضر الا وللكوفيين فيها اثر من محّدث وفدها من الكوفة فحّدث فيها وتناقل اهلها حديثه، او عالم من علمائها رحل الى الكوفة ليسمع بها الحديث، ومن ثم يعود الى بلده ليحدث اهل بلده بما تعلمه من الكوفيين، وقد مر عليك قول ايوب بن المتوكل.
ويوجد نص مهم في هذا المجال يكتسب اهمية من كون لامام من أئمة الفقه والحديث في المدينة المنورة وهو الامام مالك بن انس وذلك حين وفد عالم من علماء الكوفة الى المدينة وهو سفيان الثوري فقال مالك:«كانت العراق تجيش علينا بالدراهم والثياب ثم صارت تجيش علينا بالعلم منذ جاء سفيان( 17 )»، وفي نص آخر لا يقل عن سابقه اهمية يرويه ابن سعد عن عبد الجبار بن عباس عن ابيه قال: جالست عطاء فجعلت اسائله فقال لي: ممن انت؟ فقلت: من اهل الكوفة، فقال عطاء: ما يأتينا العلم الا من عندكم. ( 18 )
ولذا لانستغرب حين نجد ان ائمة الفقه والحديث والتفسير واللغة والادب. كانوا قد وفدوا الى الكوفة وحملوا العلم فيها.
غياب المصادر
وبعد ان وقفنا على اهمية الادوار والمهام التي نهضت بها الكوفة سوف نقف على مفارقة مذهلة متمثلة بالغياب التام لما يعد مصدراً يؤرخ لها على نحو الاستقلال، ويترجم حالات رجالاتها واعلامها سوى ما تناثر في بطون الكتب ضمناً واستطراداً في بعض الحالات.
طبعاً اذا استثنينا بعض المؤلفات المعاصرة والتي لا تنهض بهذه المهمة، ولم تكن بمستوى تأريخ حاضرة مثل الكوفة اذكر منها: «تأريخ الكوفة» للبواقي (ت 13)، وما كتبه الاستاذان سلمان طعمة الجبوري ومحمد سعيد الطريحي اللذان يستحقان الشكر والتقدير كونهما جعلا موضوع الكوفة من صلب اهتماماتهما، والمفارقة تكمن في ان الباحث في الوقت الذي لا يجد فيه مصدراً قديماً يؤرخ ويترجم للكوفة واعلامها على نحو الاستقلال سيقف على موسوعات ضخمة تؤرخ لحواضر لم يكن لها في الغالب الدور الذي كان للكوفة، ولم تبلغ ما بلغته الكوفة من الاهمية في التاريخ وتراث الاسلام.
ولم يكن هذا الغياب وليد تجاهل او غفلة من قبل المؤرخين القدامى، خصوصاً والباحث قدم اسماء كتب عدة تؤرخ للكوفة يجدها مبثوثة بين طيات مصادر التراث الاسلامي، مثل: (اخبار الكوفة) لعمر بن شبة البصري (توفي 262هـ)، و(تاريخ الكوفة) لابي الحسن محمد بن جعفر بن هارون التميمي المعروف بابن النجار (توفي 402هـ)، و(تاريخ الكوفي لابن مجالد)، و(خطط الكوفة) للهيثم بن عدي (توفي 207هـ)، و(فضائل الكوفة) لمحمد بن علي الدهقان(كان حياً سنة 340هـ)، و(فضائل الكوفة) لعمر بن حمزة العلوي، و(فضل الكوفة) لعلي بن الحسن بن فضال(توفي 224هـ)، و(فضل الكوفة ومن نزلها من الصحابة) لابراهيم بن محمد بن سعيد الثقفي (توفي 283هـ)، و(فضل الكوفة) لابي جعفر محمد بن احمد بن خاقان النهدي القلاني، و(فضل الكوفة) لابي العباس احمد بن محمد السبيعي الهمداني (توفي 333هـ)، (الكوفة) لمحمد بن بكران بن عمران الرازي، و(الكوفة وعمارة الكوفة) لعمر بن شبة البصري (توفي 262هـ)، و(ولاة الكوفة) للهيثم بن عدي، (يوم الكوفة) لعمر بن بكير، و(قضاء الكوفة) للهيثم بن عدي. وغير ذلك، ولكن رغم ذلك لم يتوفر بين ايدينا من هذه المصادر سوى كتاب، فضل الكوفة وفضل اهلها، لابي عبد الله محمد بن علي العلوي الحسيني الكوفي (توفي 445هـ) تحقيق محمد سعيد الطريحي (19)، وهو عبارة عن كتيب صغير، لولا هوامش محققه لا يتجاوز عدد وريقاته عدد اصابع اليد، ومثله كتاب: (فضل الكوفة ومساجدها)، لمحمد ابن جعفر المشهدي الحائري (من اعلام القرن السادس الهجري) تحقيق محمد سعيد الطريحي (20).
كتاب (اخبار الوافدين والوافدات من اهل الكوفة والبصرة على معاوية) للعباس بن بكار الضبيحي (توفي 222هـ) تحقيق د. سكينة الشهابي(21). فما عدا ذلك لايوجد مايُعدّ مصدراً يؤرخ لهذه الحاضرة، في حدود معرفتي.
ولابد ونحن نشير الى هذه الظاهرة ـ ظاهرة غياب مايؤرخ للكوفة- ان نقف ولو سريعاً على سببها المباشر والذي لا احسب انه تجاوز الموقف السلبي الذي اتخذه الخلفاء، الأمويون والعباسيون، من الكوفة والاعلان بمعاداة اهلها، خصوصاً اذا عرفنا ان في سيرة عمر ابن عبد العزيز ما يتضمن الموقف نفسه من الكوفة والعراق، فقد روى ابن عساكر في تاريخ دمشق عن اسحاق بن الاشعث بن قيس قال كنت في صحابة عمر بن عبد العزيز فأاستأذنته في الانصراف الى اهلي في الكوفة، فقال لي عمر: اذا اتيت الى العراق فأمرهم ولاتستقرهم، وعلمهم ولاتتعلم منهم، وحدثهم ولا تسمع حديثهم (22).
ولم يكن حال اهل الكوفة عند العباسيين احسن منه عند سابقيهم بل ظلوا ينظرون لهم نظرة عداء ومقت يمكن ان نلمسها من النص الذي يروي الطبري في قضية يذكر فيها ان اهل الكوفة قدموا على المنصور العباسي يتظلمون على الوالي، فُرُِفعَ الخبر للخليفة المنصور فقال للربيع: «اخرج الى من بالباب من اهل الكوفة فقل لهم: ان أمير المومنين يقول لكم: لئن اجتمع اثنان منكم في موضع لاحلقن رؤسهما ولحاهما، ولاضربن ظهورهما، فالزموا منازلكم واتقوا على انفسكم»(23)(24).
فبعد هذه النظرة الماحقة لاهل الكوفة كيف نتصور انهم سوف يواجهون كل ماله علاقة بهذه المدينة، فبعد ان صب الخلفاء جام غضبهم على اهل الكوفة، تشريداً وسجناً وقتلاً، وحصاراً اقتصادياً، تتبعوا تأريخها وذلك من خلال:
1- كيل الاتهامات للكوفة وانها جبلت على الشقاق والنفاق ولم يعرف عن اهلها الا الغدر والخيانة.
2- اتهموا الكوفيين بالكذب والوضع، وفرضوا مقاطعة الرواة والمحدثين لاشيء الا لموالاتهم للامام علي واهل بيته (ع)، فيكفي في الرجل ان يكون كوفياً لتسقط روايته عن الاعتبار، فمثلاً كان «مالك لم يرو عن احد من الكوفيين» وكان يرى «ان احاديث اهل العراق تنزل منزلة احاديث اهل الكتاب اي لاتصدق ولاتكذب، وكان يقول: لم يرو اولونا عن اوليهم كذلك لم يرو آخرونا عن آخريهم»(25). ويقول ابن المبارك:«مادخلت الشام الا لأستغني عن حديث اهل الكوفة»(26). وقد قالوا عن الجوزجاني انه في كتابه في الرجال:«يتشدد جرح الكوفيين من اصحاب علي من اجل المذهب» لذلك قال بن حجر:«لاعبرة بحطه على الكوفيين»(27).
وبعد كل ما مر لا اظن انه كان هناك جهد منظم لتضييع تراثها وتغييب كل ما من شأنه ان يبرز دورها، ويرسم صورتها الحقيقية.
الهوامش
1- يوسف خليف: حياة الشعر في الكوفة:ص45.
2- تاريخ الطبري: 2/483 حوادث سنة (18هـ).
3- يوسف خليف، مصدر سابق ص47-48 عن الطبري وغيره.
4- الطبري: في حوادث تلك السنين.
5- الطبري: 4/59، الامامة والسياسة: 1/166 تحقيق علي الشورى.
6- يوسف خليف، مصدر سابق ص56 عن مختصر كتاب البلدان. بن الفقيه ص169.
7- المفيد، الارشاد: 1/258
8- الطبري: 4/58 طبعة مؤسسة الاعلمي بيروت.
9- ابن سعد الطبقات الكبرى:6/9.
01- انظر ترجمة في تاريخ بغداد:7/8.
11- الخطيب البغدادي. تاريخ بغداد 8/324
21- افراد بن عقدة كتاباً بأسمائهم. فهرس الطوسي رقم 86.
31- من اصحاب الامام الرضا (ع) انظر ترجمة في رجال النجاشي:38.
41- الشيخ يعني الاستاذ في مصطلح علم الحديث.
51- الذهبي. سير اعلام النبلاء: 8/208.
61- ماسينيون. خطط الكوفة:13.
71- تهذيب التهذيب: 4/101.
81- طبقات بن سعد:6/11.
91- من منشورات مؤسسة اهل البيت. بيروت.
02- من منشورات دار المرتضى بيروت.
12- منشورات دار الرسالة دمشق.
22- تاريخ دمشق: 8/185.
32- تاريخ الطبري: 6/323.
42- لست في صدر ذكر المواقف الشائنة للامويين والعباسيين بل احببت ان اشير اشارة لذلك والا فهي اكبر من ان تحيط بها دراسة مختصرة.
52- جعفر مرتضى العاملي. الصحيح من السيرة:1/161 عن ابن تميمة في المنتقى من منهاج الاعتدال ص88.
62- العاملي. الصحيح من السيرة:1/162 عن التهذيب تاريخ دمشق: 1/70-71.
72- العاملي. الصحيح من السيرة:1/ 162 عن ابن حجر في تهذيب التهذيب:1/93 و5/46 و01/158.
مضر الحلو. لندن
التعليقات