إن ما نشهده في واقع المعارضة السورية اليوم إنما هو نتيجة منطقية لسياسات السلطة الحاكمة، هذه السلطة التي تستمد جذورها من انقلاب عام 1963 الذي أقدم عليه حزب البعث، واستولى بموجبه على مقاليد الأمور في سورية بقوة السلاح. فمنذ ذلك التاريخ، وحتى يومنا هذا، كان الهدف الأساس بالنسبة إلى السلطة السورية هو اضعاف الخصوم المحتملين في الداخل، وإخراجهم من دائرة المنافسة. ولبلوغ ذلك اُعتمدت مختلف الأساليب، بدءاً من الإحتواء والترغيب، وانتهاء بالتنكيل والبتر، مروراً بالتضييق والملاحقة والاعتقال.... وقد أخذت جهود الاحتكار السياسي من قبل السلطة منحى أكثر تنظيماُ، وأشد خطورة مع انقلاب الأسد الأب الذي سُوّق تحت اسم الحركة التصحيحية عام 1970؛ و تشخصت تلك الجهود في المصادرة على نشاط الأحزاب التي انضوت تحت لواء ما سُمي بالجبهة الوطنية التقدمية بقيادة حزب البعث، خاصة الحزب الشيوعي الذي كان يعد في ذلك الحين واحداً من أقوى الأحزاب، لا بضخامة عدد المنتسبين إليه فحسب، بل بحجم الاستقطاب الشعبي الذي كان يحظى به، وبأهمية دوره السياسي انطلاقاً من علاقاته حينئذٍ مع الاتحاد السوفييتي السابق، وما كان يتمتع به هذا الأخير من دور فاعل في معادلات سياسات المنطقة..

وقد توج الأسد الأب جهوده الساعية من أجل التفرّد بالحكم بفرضه دستوره الخاص على البلاد؛ بعد أن نال مباركة أحزاب الجبهة التي ارتضت لنفسها أن تكون تابعة لحزب البعث في كل شيء، وذلك بموجب عقد غريب تلخصه المادة الثامنة من الدستور المعني التي تسلّم قيادة الدولة والمجتمع في سورية الى الحزب المذكور، بمعزلٍ عن إرادة الشعب السوري، وبغض النظر عن توجهاته غير المتكلّسة، المتفاعلة مع طبيعة الظروف ومستلزماتها...

أما من رفض الإنصياع لواقع الحال، فقد كان نصيبه الإبعاد والتهميش والإزعاجات المستمرة، فضلاً عن السجن والمنفى، وما يسمى بقانون 49 الذي ما زال سيفاً مسلطاً على رقاب كل من ترى السلطة نفسها أنه ينتمي إلى الاخوان المسلمين..

وهكذا استمرت اللعبة على مدى أكثر من ثلاثة عقود، تمكنت السلطة خلالها من إخراج المجتمع السوري، خاصة جناحه العربي، من دائرة الاهتمام بالعمل السياسي الحقيقي، وباتت الحياة السياسية تعني في المقام الارتباط بالحزب الحاكم والمنظمات التابعة له بمهامها ومسمياتها المختلفة....
إلا أن المسألة كانت مغايرة إلى حدٍ ما بالنسبة إلى المجتمع الكردي في سورية، إذ ظل الإهتمام بالفعل السياسي، والإنخراط فيه ضمن الإهتمامات الأساسية للمجتمع المذكور، وذلك في سياق عملية حماية الذات والدفاع عن الوجود؛ هذا على الرغم من أن هذا المجتمع كان - ومازال - يُعد طرفياً quot;برّانياًquot; إن صح التعبير، في منظور السلطة، ويشاركها في ذلك - بكل أسف- العديد من قوى المعارضة نفسها. وقد تركزت الجهود السلطوية في سورية بإستمرار - وذلك بالتناغم مع برنامج حزب البعث الذي يرفض بصورة مطلقة الاعتراف بالآخر - حول هدف أساس آلا وهو إلغاء الوجود الكردي في سورية وبأي ثمن.ومن هنا كان الإحصاء والحزام والتعريب، وغيرها من الاجراءات البعثية التي تمثل الوجه الآخر للسياسة الاضطهادية المزدوجة الموجهة نحو الشعب الكردي في سورية؛ أما الوجه الأول، فهو يتجسد في رفض الاعتراف الدستوري بوجود هذا الشعب، وعدم التفكير - مجرد التفكير - في إمكانية منحه حقوقه القومية والديمقراطية المشروعة، وهي الحقوق التي تعد المقدمة والمقياس لأي مشروع ديمقراطي، يرمي إلى تعزيز أسس الوحدة الوطنية السورية على قاعدة إتاحة الفرصة أمام الجميع على قدم المساواة، وذلك عبر احترام الخصوصيات بعهود مكتوبة، واضحة محددة، تقطع الطريق على الشك والتحسّب.
وما يقتضي التوضيح هنا، هو أن القضية الكردية في سورية لا تحل في إطار احترام حقوق المواطنة وحدها، استناداً إلى روحية الدستور السوري الحالي، هذا الدستور الذي يؤكد أن جميع المواطنين السوريين هم عرب؛ في حين أن الواقع العياني ينفي ذلك، فهنالك إلى جانب العرب، الكرد وغيرهم من مكونات الشعب السوري. والكرد لايمثلون أقلية وافدة، بل يعيشون على أرضهم التي قُسمت وأُلحقت بموجب اتفاقيات استعمارية، كان الهدف منها حماية ورعاية مصالح القوى التي وضعت الأسس لعملية التقسيم في المنطقة، وأشرفت عليها..

القضية الكردية في سورية، لاتحل من دون الإعتراف الصريح والواضح بالوجود الكردي ضمن سورية الكيان السياسي الراهن الذي برز إلى العيان بعد الحرب العالمية الاولى؛ وامتلك شخصيته المستقلة بعد الحرب العالمية الثانية. أما ان نلف وندور حول قضايا هامشية، ونتبادل المجاملات المناسباتية من دون أن نغوص في الأعماق، أو ان نضع الأمور ضمن سياقها التاريخي الواقعي؛ فهذا معناه أن النية لم تستقر بعد على معالجة القضايا الوطنية بعقلية استراتيجية مسؤولة، لاتنقاد خلف الأوهام، ولاتعتمد الترقيعات أداة لبلورة معالم وحدة وطنية حقيقية، قادرة على استيعاب التنوع والاختلاف، ومؤهلة لتفاعل وتمازج حضاريين بين مختلف المكونات، من دون أن يلحق الغبن أو الاجحاف بأي منها، وذلك بناء على إعتبارات قومية، دينية- مذهبية، أو سياسية..

إن ما يحتاج إليه السوريون على اختلاف مشاربهم وتوجهاتهم، هو الحوار والتواصل، خاصة بعد ظهور المؤشرات القوية التي تؤكد حالة التآكل الداخلي ضمن مجموعة النظام نفسها - وما تصريحات عبدالحليم خدام الأخيرة سوى البداية - هذه المجموعة التي أوصلت سورية وطناً وشعباً إلى وضعية كارثية، دق ناقوسها الدكتور الفاضل عارف دليلة قبل سنوات، والشهم رياض سيف وزميله مأمون حمصي، وصحبهم الأخيار، فكان جزاؤهم المحاكمات الصورية التي قضت عليهم بالسجن الطويل إستجابة لإرادة الزبانية، هؤلاء الذين يتسابقون مع الزمن لنهش كل شيء، بما في ذلك الكرامة.......
والحوار المطلوب الذي لم يعد يحتمل التأجيل، هو ذاك الجاد الذي يلزم أطرافه بقبول التحدي، وتحمل مسؤولية المستقبل.

واستعداداً لمهمة كبرى كهذه، يتوجب على الطرف الكردي أن يكون مستعداً لما هو قادم بعقلية مفتوحة نبيهة، تتجاوز دائرة التعصب الحزبي وتشنجاته، وهذا يتم بلوغة عبر توافق مختلف الفصائل على برنامج عام يحدد المطالب الكردية بصورة بينة المعالم، وتشكيل هيئة عامة تكون بمثابة المرجعية الكردية في أي حوار وطني؛ مرجعية تستوعب الجميع أحزاباً وجمعيات وشخصيات، تعبر عن المصالح العامة التي تخص الكل. وضمن هذا الإطار يمكن الاتفاق على آلية التحرك وحل الخلافات، وسبل التواصل والتفعيل.... وما ندعو إليه هنا لايمثل مطلب مجموعة بعينها؛ بل هو مطلب يدعو إليه الشعب الكردي بأسره لتيقّنه من اقتراب موعد الاستحقاقات، وضرورة الإستعداد لأعبائها...
وأمر من هذا القبيل، سيكون من دون شك ndash; في حال تحققه ndash; دفعاً قوياً للعمل الوطني السوري العام، وذلك نظراً للدور الذي تضطلع به الحركة الكردية في إطار الفعل السوري المعارض الذي يدعو إلى التغيير الديمقراطي الشامل، هذا التغيير الذي ينسجم ومصالح سائر السوريين بصرف النظر عن توجهاتهم وأصولهم وعقائدهم.

نحن جميعاً مطالبون بضرورة الإرتقاء فوق المصالح الحزبية والشللية والفئوية، والالتزام بخيار التغيير الديمقراطي الاستراتيجي الذي يستلزم تضافر الجهود كلها لضمان مستقبل أفضل للجميع، بعيداً عن عقلية التوجس والانغلاق والثأر، وما إلى هنالك من انفعالات مذمومة، لايمكننا الانطلاق نحو المستقبل بتفاؤل حقيقي ما لم نتحرر من آثارها المدمرة...إنها ساعة الفعل الوطني الجاد الذي يقطع مع ذهنية التزلّف والتسلّق والإرتزاق؛ فعل يؤكد للقاصي والداني أن جذوة الإبداع والحضارة لم تنطفء بعد في سورية على الرغم من شرور حفنة ضالّة، اعتقدت عن سذاجة أن الوطن مزرعتها الخاصة، وأهله أقنانها..

عبدالباسط سيدا