رحم الله الأسلاف من حملة الأفكار النيرة، ومن مُـرَبي القلوب الطيبة ومن خالقي الأحاسيس المرهفة، بإقدامهم على استنباط الثالوث الإنساني النبيل المتمثل بالأفكار النيرة المجدية، والقلوب الطيبة الصادقة والأحاسيس المرهفة الرؤوفة، ليكون مصدر التأليه الروحي والنفسي في معبد الحياة. هذه الشموع الثلاث خلفوها لنا لتكون خالدة خلود الزمن، مقدسة كقدسية الكلمة، ومتميزة كميزة الجوهرة النادرة، لا يشوبها الذوبان رغم اتقادها الدائم. اودعوها لنا أمانة في محراب التاريخ لنستضئ بنورها الوهاج، لننتشل ذواتنا من دياجير الإنطواء، لنشذب اساليب سلوكياتنا من مثالب الغفلة ولنهشم تراكمات السلب العفوية بجدلية النهل من المعين المعرفي، بغية العناية بكيان شجرتنا الحياتية بتقليمها من الشوائب وصيانتها على الدوام، لتكون أكثر عطاءً، أقوى رصانة وأجمل هيبة.
أجل.. هكذا أراد المبدعون.. هكذا علمنا المفكرون.. وهكذا قصد اؤلئك الأوائل أن نكون، اولئك الذين نتبجح بأسمائهم ومآثرهم.. ولكن أن تكون كينونتنا أشد وأوسع وأعمق... وأن نرث جيناتهم بروح الصدق والإيمان ليتسنى لنا خلق جينات تتماشى ومحفزات العصر، خالية من رياح العواطف وسراب المشاعر، لتكون بالتالي ملتهبة كالجذوة البالغة الأثر، وأن لا يتم حصرها في عالم الندب على الأسلاف الجهابذة، أو التمجيد والتبجيل لهم كدوي قرع الطبول في البراري القاحلة، كحالة من حالات التعويض النفسي لإثبات الذات على حساب امتدادنا لهم في العالم الذي نعيشه، والزاخر بما لا يمكن قياسه وتلك الفترات والمراحل التاريخية المحدودة الأفق في أجواء التكهنات والصراعات على ابتلاع الشعوب لبعضها البعض. انه رغم بلوغ عصرنا ذروة المجد والعلى فإن تلك الصفات ما فتأت متأصلة جذورها بما لا يقل شأناً عـمّـا عاشه الأولون من أمجادنا، نتشبث بها لتكون ذريعة برفع شعار الأصالة كواجهة للإنتماء القومي والإعتزاز بالمآثر الفكرية والشواهد التاريخية.
احياناً نجد انفسنا ونحن سارحون في اعماق تلك البحار قد اعيانا الرحيل الساذج وكأننا عائمون ننشد الخلاص بمن هو أقوى على العوام، مبعدين عن مداركنا صفة الحياء أو الإعتراف بما لا يقبل الشك من زيف الحدث، جاعلين العقل الباطن يرتقي الى ذروة التخمينات والهواجس بإستلطا ف نرجسي يبعدنا من حقيقة الإستخفاف عمداً بعواطفنا، وفي الوقت ذاته تضخيم رؤانا المستقبلية على ارضية هشة لا تتناسب وجوهر ما يفرضه الواقع، متناسين ان قيمة الإنسان لا تتمركز أو تتصف بمحدودية ما يبلغة، بل باستمرارية التوق لما ينوي بلوغه واستهدافه مهما بلغت درجة وعيه وادراكه وارتقائه، وذلك تماشياً مع مبدأ النشوء والإرتقاء، وتلحليل دقائق الرقي بالبصر والبصيرة، بحيث لا تحدهما اية آفاق أو غشاوة الإهمال، انطلاقاً من مفهوم الكلمة الحقة التي تحمل بين طياتها حرية التجاوز لصياغات أبلغ أثراً على رقي الإنسان وانتشاله من واحات الأوحا ل التي يتناساها وهي متمثلة بتمنطقه لقول شئ ما تبتغيه منه شهوة التمنطق، أي أن يفسر الماء بالماء، وليشير الى النجوم المتألقة في أجواء السماء ومن غير أن يدرك جوهرها أو كينونتها ولا مناهل الجمال والشموخ وهي في برجها الفضائي المتعالي كعلو أي طائر متبختر بقوة جناحيه.
متى ما سبرنا أغوار أدب الحكمة والأحاديث المأثورة ونصوص الكتب السماوية بما شرعه الله وسنّه للناس وما آلت اليه المعاهدات الدولية بما فيها حقوق الإنسان، نجدها لا تخلو قط من عبارات تمجيد الإنسان وتحليه بصفات تشم من خلالها رائحة الكرامة والمحبة والفضيلة والحنان والرأفة والإحسان والعدالة والمساواة ومئات الصفات التي تحفزه للإستئثار بها ليثبت انسانيته ويدع الآخرين يتمثلون بها بغية التكافؤ في الإقدام على نشر الطمأنينة وراحة البال وروح السكينة والآمان بمنطق التفاهم والإنسجام والتآخي والإحترام.
أما من لا يقوى على اقتحام هذا العالم ويخشى التلذذ بتـنسم شذا هكذا مسك والعناية بمثل هذه الزهور الفواحة العطر في روضة المجتمع الإنساني، تجرفه الأمواج الى سواحل هشة أو صحارى جرداء لا يُستعصى فيها على النبا ت الشائك والمسموم من الإنبات والنمو لملاطفة الكثبان الرملية التي تشذ بدورها على اكتساحها وردمها. هكذا هو الحال لمن يمتثل لصفات الرذيلة والأثم والكره والغيرة والأنانية والخيانة وكل صفة عارية متفرعة من وجود شجرة يتيمة جرداء تدعه بعيداً من الوجدان المرهف والشعور الإنساني.
ان كنا حقاً من المؤمنين بما سنه الله وبما جاء به رسله.. اين نحن اليوم من تلك السُـنن واحاديث الانبياء التي توصي بما فيه الخير للبشرية جمعاء ومن دون استثناء ومهما كانت صفة الولاء أو الإنتماء مذهبياً أو عرقياً أو قومياً؟!
إن كنا حقاً من الراسخين في موضعنا تحت سقف فلاسفة الحكمة ومشاهير الفكر.. أين نحن اليوم من تلك افكارهم الإنسانية النيرة لإنتشال البشرية من الخواء الفكري والتزمت العقائدي وربقة الظلم ؟!
وإن كنا حقاً من الملتزمين بمبادئ حقوق الإنسان في عالمنا الصاخب بدوي الرعب والإرهاب.. أين نحن من مواد الدساتير والأنطمة التي صاغت نصوصها أصابع الرحمة من دعاة الإيمان بإنسانية الإنسان، ومن الطليعة الواعية المتربعة على أعراش الأحزاب والتجمعات الراكنة مفاهيمها بين دفتي الأوراق الصفراء؟!
على ما يبدو لنا ان نظرة quot; البقاء للأصلح quot; لم يعد لها تلك الفاعلية في عصر المخالب النووية، وأن قانون quot;شريعة الغابquot; حل محلها quot; شريعة الألقاب quot; كامتداد شرعي وبحلة جديدة مغايرة لما عرفه الإنسان في العصور المظلمة.
وهل كل هذه الإساليب ليصبح عصرنا الحالي أكثر ظلامية من تلك العصور الظالمة المظلمة؟ّ!!
ميخائيل ممو
رئيس تحرير مجلة حويودو
التعليقات