عندما إندلعت الحرب العراقية ـ الإيرانية، کثرت الآراء و التحليلات بشأن سبب أو أسباب إندلاعها، وعلى الرغم من أن الرأي الابرز کان يرجع ذلک الى تطويق المد العقائدي القوي و غير الإعتيادي للزعيم الديني الراحل آية الله الخميني وتحجيم ثورته في الافق الايراني، لکنه ومع ذلک طرحت آراء أخرى تتباين بعضها تماما مع هذا الرأي، إلا أنها لم تأخذ قسطا وافرا من الشهرة و الشمولية و العمق الذي إکتسبه هذا الرأي. ومع إنني لست بمخالف للرأي الآنف، إلا أنني في نفس الوقت وجدت هناک وجهة نظر أخرى کانت مطروحة في وقتها لکنها کانت في الظل تماما، مثل اللاعب الاحتياط الذي ينتظر فرصة مواتية له کي يدخل الى الساحة و يجرب حظه. يومها أو تحديدا في أواخر السبعينيات من الالفية الثانية للميلاد، إجتاحت الولايات المتحدة الامريکية ما يشبه موجة کساد و رکود إقتصاديين، وأغلقت الکثير من المصانع أبوابها و تراصف العاطلون عن العمل کجيوش جرارة في مختلف المدن الامريکية. وفي غمار الحرب الضروس التي سمتها أبواق دعاية نظام حکم الدکتاتور العراقي السابقquot;قادسية صدامquot;، والتي أکلت الاخضر و اليابس في کلا البلدين وفشلت کل جهود الوساطاتquot;الاکثر من کثيرةquot; في إسکات نيران مدافعها، شهد الواقع الإقتصادي الامريکي إنتعاشا ملفتا للنظر، و بدأت مجاميع العاطلين عن العمل تختفي من ساحات المدن الامريکية. ومع کل تراجع و إنتکاس في الوضع الإقتصادي للعراق و إيران، کان هناک إظطراد و تقدم و رخاء في بلاد العم سام. والحق أن کأس السم الذي تجرعه أول مرشد أعلى للثورة الاسلامية في إيران بموافقته على قرار مجلس الامن الخاص بإيقاف الحرب مع العراق، کان بإمکان واشنطن أن تجرعه إياه قبل العام1988، لکنها وجدت أنها قد إستنفذت أغراضها منquot;قادسية القرن العشرينquot;ولم تعد بحاجة للإستماع الى المزيد من أصوات المدافع و صواريخquot;سکودquot; الروسية وquot;دودة القزquot;الصينية اللتان کانتا تنفجران على التوالي في مدن العراق و إيران! اليوم، وبعد أن شهد العالم حروب تحرير الکويت و إسقاط الملا عمر و صدام، لم تعد لعبة الحروب بمجدية و لامفيدة في ظل نظام العولمة الذي تتقافز تداعياته يوميا من هنا و هناک، وبات إقتصاد السوق بحاجة الى عقلية تختلف عن عقلية العسکر في جبهات القتال. صحيح إنه أيضا قتال، لکنه قتال من نوع آخر و طراز إستثنائي غير مطروق سابقا. هو قتال ساحته مصالح الشرکات العملاقة و أسلحته آخر المبتکرات العلميةquot;سلبا أو إيجاباquot;. وکما تحاول الجيوش في حروبها التقليدية سرقة المعلومة العسکرية من بعضها في جبهات الحرب و حتى في العمق، فإن تلک الشرکات و الکارتلات العملاقة تسعى للحصول على المعلومة الاقتصادية أو العلمية و توظيفها في حرب يتواجد فيه کل شئ عدا الاخلاق و القيم الانسانية. جنون البقر الذي أقام الدنيا، هاهم يقعدونها على quot;جمرquot;إنفلونزا الطيور! وأنا کنت أتابع حملات إعدام آلاف الاطنان منquot;لحومquot;البقر، فإنني کنت أستحضر دوما في ذهني صور آلاف الاطنان من القمح و الفواکه و الخضراوات المعدومة بيد الشرکات تحت ذريعة المحافظة على سقف الاسعار. ورغم أن البعض سوف يعترض و يطرح ثمة فرقا أو فروقا بين الامرين، لکن الامر في خاتمته يرجع الى السوق والى العامل الإقتصادي. للأسف لست إقتصاديا حتى أوضح المسألة من تلک الزاوية و أبين أن ماکان مصيبة مع أصحاب البقر المجنون رغم أنفه، کان فائدة وحتى عيدا عند أصحاب النعاج و الکباش و الخنازير! اليوم حين يجتاح إنفلونزا الطيور بلدان متباينة من العالم وتجد القرويين المساکين في بلد ذو إقتصاد کسيح کترکيا وهم يحاولون جاهدين إخفاء طيورهم الملاحقة لإنقاذها من حملات الإعدام الجماعي، فإن ثمة أمر هناک في الافق، أمر قد يکون حاليا غير واضح أو تشوبه الشوائب لکنه مع ذلک يرتبط إرتباطا وثيقا بإقتصاد السوق و بتلک الشرکات! لست أدري لماذا لاتتحرک شعرة لکل تلک الجمعيات التي تتکاثر في العالم الحر تحت يافطة الرفق بالحيوان، لماذا لا يتابعون هذا الاجرام الانساني المقزز بحق عالم الحيوان، ألا نکتفي بذبحه و سلخه و طبخه حتى نتسلى بأنباء حملات إعدامه الجماعية! مسکين أبو العلاء المعري، إذ حين وضعوا دجاجة مطبوخة أمامهquot;وهو النباتيquot; تفحصها بأنامله وهو يقول quot;إستضعفوک فذبحوکquot;، ولکن ماذا لو عاد الى الحياة في يومنا هذا و شهد جبروت هذه الشرکات العملاقة التي تستضعف کل شئ أمامها وتسلک کل السبل غير المتاحة أولا ومن المتاحة ثانيا لتحقيق أرباحها و سلطتها في الساحة، يقينا کان سيصعق ويتفاجأ مثلنا بأمراض و ظواهر غريبة أخرى ستظهر نظيرquot;کساح الماءquot; وquot; شلل الاشجارquot;!

نزار جاف
[email protected]