حوار مع ورقة دكتور احمد الشاهي: الديموقراطية والاستنارة

نشر د. احمد الشاهي، العراقي الاصل البريطاني الجنسيه السوداني الهوي والهويه، ورقة علي الانترنت كان قدمها في ندوة عقدها ( مشروع دراسات الديموقراطية في البلدان العربيه العربيه ) بمدينة اكسفورد بعنوان quot; ضرورة الديموقراطية الوفاقية في السودانquot;. الديموقراطية الوفاقية مصطلح حديث نسبيا يشير الي صيغة ديموقراطية مرحلية تطول او تقصر حسب ظروف كل بلد تتوفر فيها كافة المقومات من انتخابات نزيهة وصوت واحد لكل فرد فيما عدا اعمال مبدأ غلبة الاغلبية. برضاها وبالاجماع الوطني يتم تجميد هذا المقوم لصالح توافق تتقاسم فيه كافة اطياف البلاد السياسية والاثنية والقومية السلطة ريثما تترسخ التجربة ويصبح ممكنا اعمال هذا المبدأ ايضا. وكانت الندوة مخصصة لهذا الموضوع في بعض الاقطار العربيه. هذه مجموعة من الملاحظات اثارتها ورقة د. الشاهي.

تحمل ( شد الحاء ) الورقة المثففين والجيش السوداني مسئولية فشل الديموقراطيه وهذا يحيل الي مسألة اولي وهي مدي مشروعية التمييز بين الاثنين.
رغم خصوصيات التأهيل المهني للعسكريين فهم في الحقيقه جزء من المثقفين من حيث نوعية التعليم والتطلعات الفردية والجماعية والعقليه واسلوب الحياة عموما. من ناحية اخري فأن الانقلابات لم تكن صناعة عسكرية بحته وانما صناعة مثففين مدنيين ايضا الي درجة بعيده سواء من حيث تهيئة الاجواء بالنقد غير الديموقراطي للاحزاب التقليديه، اي المصحوب بالترويج لنظريات التغيير الفوقي وحرق المراحل، او المشاركة الفعليه. الامر وصل في السودان الي تزايد الاشتراك الفعلي للمدنيين في تنفيذ الانقلابات درجة التوازي مع دور العسكريين في الانقلاب الاخير عام 89 عبر تطور صيغ الانقلابات فيه بدء بنموذج العسكري- العسكري في انقلاب جنرالات نوفمبر 58. هؤلاء كانوا عسكريين محترفين غير مسيسين رغم ان الانقلاب جاء نتيجة تواطؤ مع بعض سياسيي حزب الامه وبالتالي دون اجندة راديكاليه لتغيير المجتمع.
الطور الثاني كان طور العسكري شبه المدني شبه المسيس في انقلاب صغار ومتوسطي الضباط. هؤلاء كانوا مسيسين جزئيا بحكم الانتماء السطحي لمعظمهم الي التيارات السياسية اليساريه القومية العربية والوطنية وبالتالي ذوي اجندة راديكالية في هذه الحدود خلال مرحلتهم الاولي. وفي الطور الثالث تحقق التماهي بين العسكري والمدني وتسنم السلطة الانقلابيةالعسكري- المدني ذو الاجندة الراديكالية بحكم الانتماء الكامل لضباط الانقلاب الي الحركة الاسلامية واشتراك مدنيين مسلحين في التخطيط للعملية الانقلابية وتنفيذها ثم حمايتها. حتي وقوع الانشقاق البشيري- الترابي بعد ذلك لم يغير معطيات هذا التوصيف تغييرا اساسيا.

الملاحظة الاخري في الورقة حول ان اهل الريف اعرف بمصالحهم وظروفهم صحيحه بمعني المصالح والظروف المباشره ولكنها غير صحيحه فيما يتعلق بكونهم اكثر تأهيلا لمواجهة قضايا التطور العامه. في الواقع، وبمعني من المعاني الهامة للغايه، العكس هو الصحيح خاصة فيما يتعلق بمسألة الديموقراطيه. فالحقيقة هي ان مشكلة السودان وربما بقية الدول العربيه مع الديموقراطيه هي تضاؤل درجة التحضير او التحضرURBANIZATION في العقلية والسلوك واسلوب الحياة الشخصيه لدي سكان المدن ( المتعلمون، ممارسي المهن الحديثه، المحتكون بالعالم الخارجي ايجابيا الخ.. الخ.. ) وارتفاع درجة الترييف في هذه النواحي نفسها خلال ربع القرن الاخير.
يعود هذا الي فشل استزراع الديموقراطيه عربيا وسودانيا ومن ثم فشل التنميه الاقتصادية والاجتماعيه بما في ذلك نوعية التعليم وازاء اسرائيل مما ادي الي ظواهر مثل النزوح الريفي الاستثنائي للمدن ونمو الاصولية الاسلاميه والعقلية التقليدية عموما. بعبارة اخري التصفية الكاملة تقريبا لما تحقق علي يد حركات الاستقلالالوطني والحركات السياسية والتيارات الفكرية والادبية الحديثه من تقدم في التكوين النوعي للانسان السوداني والعربي منذ الخمسينيات.
بعبارة اخري ايضا تقلص رصيد الاستناره وهي الترجمة العربية المعتمدة لمصطلح ENLIGHTENMENT الذي يشير الي الحراك الفلسفي والفكري والاجتماعي والاقتصادي الكبير خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر الذي اخرج اوروبا من ظلمات القرون الوسطي.

ان نجاح الديموقراطية في اوروبا الغربية والسهولة النسبية للانتقال اليها في اوروبا الشرقيه بعد انهيار المعسكر الاشتراكي يعود الي انها
كانت مسرح عصر النهضه والتنوير ومن ثم الثورة الصناعية والديموقراطيه والتقدم المادي والمعنوي. رغم اعتماد هذا العصر في انطلاقه علي مدخلات اساسية من الحضارة العربيه الاسلاميه الا ان المنطقة ودولها بقية بعيدة عن التاثر به.
نسبيا مصر والمشرق العربي كان لهما نصيب من الاستنارهلكنه غيركاف والبقية، خاصة السودان، كان نصيبها من الاستناره اقل حتي من نصيب مصر والمشرق..
بل ان العقود الماضيه شكلت فترة ردة عن القليل المتحقق منها اواخر القرن التاسع عشر واوائل القرن العشرين. اهم مظاهر ذلك انحدار فئات سياسية- فكريه منتميه الي دائرة الفئات ال( حديثه) مثل الاسلاميين السودانيين، الي درك ممارسات بربريه بخلق الاجواء والضغوط السياسية لتنفيذ حد الرده شنقا بل والمشاركة فيه ( حالة اعدام المفكر الاسلامي محمود محمد طه ) بعد نجاح سابق في تقنين وتنفيذ عقوبات بتر الايادي والصلب.
حصيلة هذا الوضع هي ان السودان والدول العربية الاخري تعيش حلقةمفرغة بين استحالة الديموقراطية او ترسخها لانعدام الرصيد الاستناري تاريخيا او ضعفه، وكونها الطريق الوحيد لمراكمة عناصر الاستنارة تدريجيا.

المخرج ذو شقين. التركيز كأولويه لدي المعارضات والحكومات المهمومة فعلا لاقولا بقضية الديموقراطيه علي التعليم الحديث المفتوح علي العقلانية والعالم المتقدم في اوروبا وامريكا واليابان ودول مثل الهند وماليزيا والان تركيا. هذه هي النقطة المحورية لكسر الحلقة المفرغه كون التعليم النوعي شكل تاريخيا وعمليا المدخل الاساسي لليقظة السودانية والعربيه والعالمثالثيه مع بداية الاحتكاك مع العالم المتقدم واداة رئيسية للتفاعل معه. هو بؤرة تنمية الاستناره ومن ثم اشعاعها علي تكوين المجتمع والافراد مدينة وريفا. الشق الثاني هو اعادة صياغة العلاقة مع الغرب بحيث يتسني التمييز بين الصراع مع حكوماته واستراتيجياتها وسياساتها حول القضية الفلسطينية وغيرها، والاستفادة من تقاليده المتجذرة ومخزونه الغني من العقلانية والديموقراطيه.

هذه قضية مثيرة للجدل لازال العقل العربي والسوداني حتي الذي يعتبر نفسه منتميا الي التقدمية او هو فعلا ذلك، غير قادر علي تكييفها بصورة ايجابيه. مما يساعد علي ذلك الاقرار بأن قوي التقدم والتحديث، بصرف النظر عن تعريفها الصحيح، تعاني من ضعف كمي وكيفي يجد مكامنه في حالة المجتمع وليس اوضاعها الذاتية فقط مما يجعل التخلص منه صعبا ويستدعي بالتالي عدم اهمال اي مصدر للتقويه مهما كانت اشكالياته. النقطة
الثانية في هذا الصدد هي أن الاستيعاب الخلاق للنواحي الايجابية في التجربة الغربيه بمقاييس احتياجاتنا المصيرية والملحه عنصر فعال في تحسين شروط الصراع حول كافة القضايا موضع النزاع مع الولايات المتحدة وغيرها من الدول الغربيه لانه يساهم في معالجة نقطة الضعف الرئيسية وهي ضعف مكونات مجتمعاتنا كعقليه وسلوك ديموقراطي ومستنير وبالتالي ضعف احزابنا وانظمتنا السياسيه وحكوماتنا.

عبد العزيز حسين الصاوي

كاتب سوداني