من يعرف ألبرتو فرناندز جيدا، فلن يندهش لما يقوله الرجل أو يصرح به، فهو سياسي منسجم مع ذاته، وما يقوله ألبرتو، يؤمن به.
آخر تصريحات ألبرتو للجزيرة، أثارت عاصفة من الاستغراب في العالم العربي، كون هذا الدبلوماسي العامل في الخارجية الأمريكية، يشغل موقعا حيويا فيها، فهو مدير شؤون الشرق الأوسط في مكتب الدبلوماسية العامة بالخارجية الأميركية.
ومؤخرا كان ألبرتو نجم الفضائيات العربية بلا منازع، والتي رأت في تصريحاته وطريقة حواره منجما للإثارة الإعلامية، كون الرجل يتحدث بطريقة مختلفة عما عهدناه من مسؤولين أمريكيين.


مرة أخرى، ما يصرح به ألبرتو، ليس جديدا على من يعرفونه جيدا، وأزعم أنني ممن ربطتهم علاقات وثيقة بالرجل منذ كان يعمل في سفارة بلده في الأردن، وامتدت الصداقة حتى الولايات المتحدة التي عشت وعملت فيها لفترة من الزمن.
وحين يقول ألبرتو أنه يؤمن بالديمقراطية، فإنني أصدقه تماما، فقد ولد الرجل بهافانا، وكانت ثورة كاسترو الشيوعية قد أعدمت جده( مفوض البوليس في كوبا) مما اضطر أسرته إلى الهجرة إلى أمريكا، وألبرتو يحمل في داخله كراهية شديدة لأي نظام دكتاتوري ويعشق الحرية.
وكدارس للغة العربية، تبحر فرناندز في تاريخ العصور لوسطى لعلم الإسلامي، وهو من المثقفين بكثافة فيما يتعلق بتاريخ الحروب الصليبية، وعصور المماليك، وقارئ جيد للتاريخ العربي، إضافة إلى شغفه الآخر بالسينما الكلاسيكية الراقية، مما يعكس شخصية ذواقة للفن الرفيع.
لكن أكثر ما يميز ألبرتو فرناندز كشخص، هو إيمانه المطلق بالتغيير الممكن، وتجاوزه لحدود ما يمكن اعتباره مستحيلا لفرض نظريته حول إمكانية تغيير الأفكار المتطرفة، ومواجهتها بذكاء إنساني، لترتد الأفكار المتطرفة على ذاتها وبذاتها، فتتغير.
حين كان يعمل في الأردن، دبلوماسيا في القسم الإعلامي في السفارة، لم يتوان ألبرتو عن كسر الحواجز وبمبادرات ذاتية منه شخصيا لقاء الصحفيين والكتاب، وكان يستهويه أكثر ما يستهويه محاولات نسج صداقات تكاد تبدو مستحيلة مع الكتاب الأكثر تطرفا ضد أمريكا، وقد نجح الرجل إلى حد بعيد في ذلك، ولا يزال العديد في الأردن يحمل قناعة شخصية أن ألبرتو صديق شخصي وأثير.
ذات مرة، أرسل ألبرتو شابا موهوبا، إلى الولايات المتحدة في دورة دراسية، هذا الشاب، كان مرتبطا بحزب التحرير المتطرف، وبوساطة مني وعلى غذاء في عمان، قابل ألبرتو الشاب، وصمم على إرساله إلى أمريكا( متشيغان)، وأسر لي ألبرتو حينها أن الشاب موهوب ولامع وذكي، ومن الخسارة أن يبتلعه التطرف، ورؤيته تكمن في أن الشاب لا بد أن يرى quot;الشيطان الأكبرquot; كما هو، وهو متأكد أن قناعاته ستتغير لوحدها.
هذا الشاب، عاد إلى الأردن، وهو الآن من أهم كتابها الإسلاميين التنويريين والليبراليين.


وبعد خدمته في الأردن، تم نقل ألبرتو إلى أفغانستان، وما فعله هناك، كلحق إعلامي وثقافي، أنه كان يرسل المتطرفين المقربين من طالبان إلى أمريكا نفسها في زيارات دولية، ليعودوا بنمطية جديدة في التفكير، أكثر عقلانية وأكثر اتزانا، بل مما يذكر عنه أن ساهم في تكريس الجهود لإعادة بناء جامع أثري في أفغانستان، وهو الكاثوليكي الملتزم.
تعكس فلسفة ألبرتو في العمل، فلسفته في الحياة، فهو مؤمن بأن الله للجميع، والعالم يمكن أن يعيش بسلام عن طريق الحوار الجاد والواعي.
ربما يجدر بي أن أنقل حرفيا نص ما يؤمن به ألبرتو على لسانه في رسالة إلكترونية شخصية أرسلها لي بعد تصريحاته الأخيرة في الجزيرة، بتاريخ 24 أكتوبر 2006، حيث أقتبس ما نصه:
(... إن جهودي كانت دائما محفزة بقناعتين:
أرفض بشدة مفهوم العداوة بين العالم العربي وأمريكا، وأرفض قبول فكرة وجود هذه الكراهية بين العرب والأمريكان، فهذا لا يقع في مصلحة الإدارة الأمريكية ولا الشعب الأمريكي ولا العالم العربي، يجب علينا إيجاد طريقة ما للتقدم نحو أهداف إيجابية، وأهم طريقة لنا معا هو أن نعترف بأخطائنا جميعا، وندرك تلك الأخطاء ونفهمها جيدا، وهناك حاجة ماسة في العالم العربي لترسيخ مفاهيم النقد الذاتي، خصوصا في الإعلام العربي بدلا من تحميل كل مشاكل العالم العربي على الولايات المتحدة.


أما القناعة الثانية، فتتلخص في أنني أؤمن بصدق أن مستقبل العالم العربي لا يكمن فقط في التاريخ المجيد له، بل لا بد من تعزيز قيم الديمقراطية والحرية...)
...وبعد، فإن ما يقوله ألبرتو عن ضرورة فهم أخطائنا، كما هو الحال لأمريكا بضرورة فهم أخطائها يعد فعلا خطوة جدية نحو فهم مشترك لأول مرة، يكون نقطة أساس لانطلاقة جديدة في التعامل.


وتصريحات ألبرتو الأخيرة في الجزيرة، جزء من نقد ذاتي شجاع، لا ينفي عن الرجل إخلاصه ووطنيته لأمريكا، ومن جهة أخرى يعزز مصداقيته كدبلوماسي حكيم، تحتاجه أمريكا بقدر ما يحتاج العالم العربي من هم مثله.
ألبرتو فرناندز، قد لا يتحدث مرة أخرى على الفضائيات، كما أخبرني في رسالته، وهو يتعرض لمضايقات مزعجة من غرباء يتصلون به داخل أمريكا، وبشكل أقل يتلقى ردود فعل مرحبة من أمريكان آخرين.
برأيي الشخصي، سياسة أمريكا متغطرسة وغبية، نعم بالتأكيد، وفي المقابل، كانت سياساتنا كعرب غبية مع الغير ومتغطرسة مع شعوبها، فلنقف دقيقة ولنفكر بذلك، ثم نعيد بناء الجسور مرة أخرى.

مالك العثامنة
[email protected]