ربما كانت دوافع تأسيس حزب البعث العربي الإشتراكي، في السابع من نيسان ( أبريل ) العام 1947، في مقهى الرشيد بدمشق، أمرا ً مبررا ً بعض الشيء. لكن غير المبرر هو إصرار هذا الحزب على التشبث بالسلطة بأي ثمن، في أي بلد يسوقه الحظ أو الإرادات الدولية المتصارعة إلى ساحة الإعدام المتمثلة في الحكم البعثي.
المبرر الذي يمكن quot; تدبيره quot; لأصل وأساس إنشاء هذا الحزب، أنه ربما كان مؤسسه ميشيل عفلق على قدر من الوطنية والقومية مشابه لما كان يتمتع به مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي أنطون سعادة. مايدفع المراقب إلى التعاطف مبدئيا ً مع هذه القضية، طالما أنها كانت، كما يـُد َّعى، تستهدف تحقيق الصالح العام لأوطاننا وأممنا المشرقية، بغض النظر عن المسميات، من أمة عربية واحدة إلى سورية كبرى إلى هلال خصيب إلخ... لكن بيني وبينك ؛ لاأجد في نفسي ذرة من التعاطف القائم على العقل أو حتى العاطفة، مع عفلق وحزبه، بعد ذيوع صيت انتهازية الرجل وذيليته لبلطجي مثل الرئيس العراقي الأسبق صدام، وبعد جرائم حزب البعث التي فاقت حد الإحصاء وبشاعة التصور ومدى القدرة البشرية على تصور البشاعة.


وعلى خلاف مايشيع في وسائل الإعلام في العراق وخارجه، من أن السلفيين والتكفيريين القادمين من الخارج أو المصنـَّعين محليا هم الذبـّاحون الحقيقيون على أرض الرافدين، فإن الواقع المعاش والتجارب المتكررة والتاريخ الطويل لفاشية حزب البعث العربي الإشتراكي، وخاصة في العراق، تؤكد مجتمعة أن quot; أبطال quot; معظم عمليات الذبح الوحشية والجرائم المنكرة والمبتكرة، والإجهاز على الرهائن والأسرى والنساء والاطفال والعزل، أو مايصفه أحد المواقع السلفية على النت بـ : الإعدامات الجماعية للرهائن العراقيين على أيدي المقاومين البواسل، وقصف الأحياء السكنية بقنابر الهاونات، واغتيال الأبرياء من العراقيين من كل الطوائف والأديان وخاصة الشيعة، وتفجير السيارات والدراجات المفخخة بين صفوف العمال والكادحين والمسافرين والنساء، هي من تخطيط وتنظيم وتنفيذ البعثيين أولا وآخرا وفي البين أيضا ً، وهذا لاينفي مساهمة القادمين من الخارج والمنتـَجين محليا معهم بقسط كبير من هذه الجنايات.
القطع والجزم بهذه الصورة ليس استلالا من حتميات تاريخية مستهلكة، بل هو حقائق ووقائع مؤسسة على معطيات من لحم ودم.


كنت لما أزل صغيرا ً العام 1963 ( ثماني سنوات فقط ) حينما انطبعت في ذاكرتي الغضة تفاصيل مايتناقله الأقارب والأباعد من الكبار، عن تلك الصورة الهمجية لعدد من الأجساد النسوية العارية والمقطوعة الرؤوس، لمغدورات اعتدي عليهن في مقرات الحرس القومي التي كان يشرف عليها المجرم نجاح الجلبي ملحق النظام العسكري فيما بعد بالسعودية، وقد أعدمن وألقيت جثثهن من على سدة البدعة التابعة لقضاء الشطرة إلى لجة المياه، ثم اكتشف الأهالي الجريمة بعد أن طفت الجثث على سطح الماء، فسارعوا إلى دفنها على عجل متسترين على الفاعل خوفا ً وطمعا، كعادة العديد من أبناء شعوبنا وإن كلفتهم الكثير !
ومنذ ذلك الحين، وحتى لحظة سقوط حكم حزب البعث في العراق في التاسع من نيسان ( ابريل ) العام 2003، وحتى اليوم وفق استنتاجي، امتاز هذا الحزب بصور مختلفة للإبادات الجماعية والقتل العام، مثل جرائم الدجيل والأهوار وحلبجة والانفال والمقابر الجماعية وتطهير السجون وغيرها، لكن القاسم المشترك الأعظم بين كل جرائم حزب البعث كان بشاعتها ودمويتها وطبيعتها المبتكرة.


ولعل القليل من القراء في خارج العراق يعرف أن أول من استخدم أسلوب ذبح السجناء بالسيف هو هذا الحزب ذاته قبل أن يعرف الناس شيئا عن الإرهابي الزرقاوي أو غيره من إرهابيي تنظيم القاعدة. كان السجناء يذبحون بالسيف من الوريد إلى الوريد على أيدي جيش فدائيي صدام الذي يذبح الآن الأبرياء العراقيين من مختلف الطوائف والقوميات تحت مختلف المسميات : فتارة تنظيمات المجاهدين، وتارة فرق الموت، وتارة جيش هذا أو حزب ذاك أو هيئة ذلك، لكنهم هم دون غيرهم ؛ فدائيو صدام الذين لاخير فيهم وإن تلبسوا بأي لبوس، فقد شبوا وشابوا على القتل والإجرام ولم تبق في نفوسهم ذرة خير وصلاح ورحمة. ذكر لي صديق خارج من جحيم البعث عقب انتفاضة آذار ( مارس ) الشعبية في جنوب العراق العام 1991، أن فدائيي صدام المجرمين هؤلاء، الذين أعيدوا الآن إلى الخدمة في الدوائر العراقية تحت مسمى ( المتضررين السياسيين ) فيما لم يصرف لنا أحد نحن المعارضين السابقين والمفصولين السياسيين من دوائرنا فلسا واحدا، ولم يطرق بابنا أحد، ولم يراسلنا أحد، ولم يستشرنا أحد ممن يتمتعون الآن في نتاج تضحياتنا وصبرنا الطويل وتضحيات الشعوب الغربية لاتضحياتهم هم، فقد كانت معارضاتهم المزعومة خدمة متصلة لمختلف الدوائر الأجنبية، عاشوا على إثرها مترفين متنعمين في مختلف العواصم، أقول بعد هذه الشقشقة التي هدرت وقد لاتقر ّ، إن فدائيي صدام القتلة ( يقول صاحبي ) كانوا يذبحون السجناء الأبرياء ثم يدخلون أيديهم في عروق الرؤوس المقطوعة التي يتدفق منها الدم الساخن، رافعينها إلى الأعلى و هازجين باسم البعث الصامد وطائفين حول الجثث البريئة في سعار وحشي يتردد في أجوائه اسم صدام الذي هز ّ أميركا كما يتخرصون!


مارس البعثيون جرائمهم في كل ميدان من ميادين الحرب والسلم. فقد أحرقوا الأسرى خلال الأيام الأولى للحرب العراقية الإيرانية بالنار وهم أحياء، مادفع بعض العنصريين على الجانب الآخر إلى إلقاء أعداد من الأسرى العراقيين من شواهق الجبال خلال معارك بعض المناطق الحدودية بين الطرفين في كردستان. وأثناء احتلال دولة الكويت قتل البعثيون كما يقول لطيف يحيى فدائي عدي صدام في كتابه quot; كنت ابنا ً للرئيس quot; أربعة عشر كويتيا ً ذبحا ً بطيئا ً وهم وقوف لإرهاب وإرعاب من يرى هذا العمل البربري من الكويتيين، كما من الجنود العراقيين الذين قد يكونون يرفضون العدوان على الدولة الشقيقة والجارة.
والسجل يطول ويتشعب، ولكنني أردت اليوم تذكير العالم بجريمة بعثية أخرى قد لايلتفت إليها أحد، وربما لم يتبق من ضحاياها من له القدرة على مقاضاة الحزب الدموي أو المطالبة بإعدام قادته.

كارثة الحنطة المسمومة!

في شتاء العام 1971 / 1972 أراد حزب البعث العربي الإشتراكي صرف أنظار العراقيين عن تصفياته الداخلية لخصومه السياسيين، فأشاع بين أبناء الشعب أن ثمة مجاعة رهيبة على الأبواب، الأمر الذي نتجت عنه كارثة كبرى.
بعد جفاف وجدب داما سنتين، تظاهر حزب البعث الحاكم آنذاك بالقيام بعدد من التدابير الاحترازية لتوفير القمح للمواطنين. ولما كان معظم قادة هذا الحزب من الأميين وخاصة في القطاع الزراعي، فقد وضعوا جملة من التدابير غير المدروسة والقائمة على أساس قياسات باطلة وغير مؤسسة على دراسات وافية لطبيعة المجتمع العراقي. وعلى هذا فقد عجزت هذه الدراسات عن الاخذ بنظر الاعتبار نقاط الضعف البشرية، مثل الجشع ونفاد الصبر، وكانت النتيجة حدوث مايمكن اعتباره أكبر حادثة تسمم جماعي في التاريخ، راح ضحيتها حسب أرقام حزب البعث الرسمية خمسة آلاف ضحية بين قتيل وجريح وعشرات الآلاف الأخرى ممن أصيبوا بالعجز الكلي أو الجزئي مدى الحياة.


الشؤم الذي جلبه حزب البعث معه، في انقلابه الثاني العام 1968، امتد ليشمل الزراعة والخصب والنماء التي اشتهرت بها أرض السواد، التي لم تشتهر بهذا الاسم إلا لكثافة محاصيلها ومزروعاتها. وهكذا فقد كان صيف عامي 1969 و 1970 أكثر جفافا ً مما يتصور. حزب ميشيل عفلق وجد طبعا ذريعة جاهزة لهذا الجفاف، وكانت تتمثل بقيام شقيقه اللدود في دمشق بقطع مياه نهر الفرات ( وهي بدورها جريمة بعثية بامتياز مستقاة من الأفكار الفاشية التدميرية ذاتها ! ). كان ناتج محصول القمح ضئيلا ً جدا ً، وكان أن تفتقت أذهان البعثيين الحاكمين عن فكرة جهنمية، بادي الرأي، تلخصت بالإغارة الرسمية المنظمة على الخزين الاحتياطي من القمح لتوفير طعام عاجل للشعب الجائع ! وبحلول العام 1971، كان ماتبقى في السايلوهات ( مخازن الحبوب ) منخفضا بشكل مرعب.
بعدما ووجه بانخفاض احتياطي الغلال إلى درجة رهيبة، قرر حزب البعث في إجراء مرتجل آخر شراء حبوب اجنبية لسد العجز والشحة في هذا المجال. وكان أفضل ماهو متوفر في هذا المجال نوع من القمح يدعى ( مكسيباك ) وهو منتج عالي النوعية طوره في المكسيك حائز أميركي على جائزة نوبل يدعى نورمان بورلوغ.
طلبت حكومة البعث ( 73 ) ألف طن من هذا القمح، بشكل أساس من الشركة الأميركية، وأكملوه بكمية منفصلة تبلغ ( 22 ) ألف طن من الشعير من منتجي الساحل الغربي للولايات المتحدة الأميركية. لكن مسؤولي الزراعة البعثيين أصروا على أن تعامل كل هذه الكميات بمواد مضادة للآفات الزراعية وكان من أكثرها تأثيرا ً مبيد ( Methylmercury Dicyandiamide ). ولم يلتفت هؤلاء المسؤولون الأميون أو المغرضون لتحذيرات الأميركيين والكنديين والمكسيكيين من أن العالم المتحضر منع العلاجات القائمة على الزئبق للمحاصيل الزراعية، عقب ذعر التسمم في السويد وباكستان وغواتيمالا في الخمسينات، وأن السائل الفضي المعدني كان مفيدا في مكافحة الآفات الزراعية ولكنه مهلك ومميت بالنسبة للبشر والحيوانات، وخاصة حين بلعه.
وكان العراق نفسه قد عانى من سريان التسمم الزئبقي عامي 1956 و1960، لكن حزب البعث يبدأ من نقطة البداية دائما غير ملتفت إلى تجارب غيره، ربما تيمنا بالخطب الإنشائية والتهويمية لمؤسسه عفلق والتي جمعت فيما بعد في كتاب تحت عنوان نقطة البداية نفسه !
في 16 / 9 / 1971 كانت سفينة الشحن ( تريد كارير ) المسجلة في ليبريا قد وصلت إلى ميناء البصرة بحمولتها الغالية من الحنطة والشعير. كان لون القمح ورديا ً زاهيا ً بعد المعالجة بالزئبق، وكان كل كيس يحمل علامة التحذير من السموم، لكن بالأسبانية ( لغة المكسيك ) وبالإنكليزية، كما كانت هناك أيضا علامة الموت أو الخطر ( الجمجمة والعظمان ) مع عبارة بارزة باللغتين الأجنبيتين أيضا هي ( معامــَل بالسموم ).
من يقرأ الأسبانية والانكليزية ومن يكتبهما، في مجتمع شبه أمي بالكامل، أقصى ماعلمه البعث في مدارس محو الأمية ( راشد يزرع.. وزينب تحصد ) ! هذا مالم يجب عليه حزب الأمة الفاشية الواحدة، ذات الرسالة التدميرية الخالدة..
ولكي تكتمل دائرة الشؤم، أخبرت السلطات البعثية الفلاحين بأنهم سوف لن يدفعوا شيئا ً لقاء هذه الكميات من القمح حتى مابعد حصاده. وبالتالي، فقد قرر الكثير منهم التمتع بسنة ميمونة نتيجة مايربحونه من بيع كل ماكان لديهم من قمح سابق كان من المفروض أن يزرعوه. ثم ملأوا براميلهم بالبذور الوردية المجانية، لصنع خبزهم منها في الشتاء، فيما باع آخرون مافاض عن حاجتهم من هذا القمح إلى سكان المدن.
الجميع شارك في هذه الحملة الانتحارية الوطنية ( دون زعل ؟ هذه هي طبيعتنا نحن العراقيين ! ) فسائقو الشاحنات الذين كانت لديهم تعليمات مشددة بعدم التوقف بعد مغادرة الميناء إلا عند السايلو لتفريغ حمولتهم، كانوا يبيعونها بالكامل في الطريق، ثم يدعون أنها سرقت أثناء الرحلة. والسايلوهات ذاتها كانت تعطي القمح الوردي للمستهلكين من دون أن تخبرهم بشيء عن السموم الزئبقية التي تكسوه. كانت الحكومة تلقي من الطائرات الزراعية نصف مليون ورقة تحذير من الحنطة المسمومة، وكان المواطنون الواعون يستخدمون هذه الأوراق في لف ّ الكباب كما يفعلون مع الجرائد !
وسرعان ماخبزت النساء والأمهات، في طول البلد وعرضها، ذلك القمح، وقد أخبر الناجون المستشفيات فيما بعد أنه كان أفضل نوع من الخبز ذاقوه في حياتهم !
وبدأت العوائل بخزن القمح لخبزه حينما يأتيها ضيوف أعزاء. ولم تمض أسابيع، حتى كانت النتائج المروعة لتناول هذا الخبز اللذيذ تنتشر في جميع أنحاء العراق.
كان الكبار والصغار يتقيأون بشدة في كل مكان، وكان الزئبق القاتل يفتك بالأدمغة والأجهزة العصبية لشعب ابتلاه القدر بالبعث والشؤم والتخلف معا ً.
كانت أكياس القمح تحتوي على تعليمات بالأسبانية والإنكليزية تقول بالحرف الواحد، دون أن تضيف إليه الأهزوجة الشهيرة لمطرب البعث الراحل داود القيسي : هلهولة ( زغرودة ) للبعث الصامد هلهولة : ( أعط لمن ابتلع القمح وتسمم حليبا ً أو بياض بيض ٍ مخفوقا ً بالماء، ثم ملعقة طعام من الملح في قدح من الماء الدافىء، واستمر على ذلك حتى يصبح القيء صافيا ً، واستمر على الحليب وبياض البيض مع الماء ثم اتصل بالصيدلي ) !


المرض الفتاك لم يكن يمزح كحزب البعث وتحذيراته. كان الضحايا عاجزين حتى عن الاتصال بأقرب أقربائهم. كانوا يستلقون بالمئات على أسرتهم أو في الشوارع، لافظين أنفاسهم الأخيرة ببطء.
الأرقام الرسمية التي أعلنها البعث الصامد للمتسممين تشير إلى ( 6530 ) شخصا ً مات منهم في المستشفيات ( 459 ). لكن الخبراء الخارجيين أكدوا أن الأرقام الحقيقية للضحايا كانت أعلى من ذلك بكثير. فقد كتب يقول أدورد هيوز محرر شؤون الشرق الأوسط في جريدة ( وول ستريت جورنال ) ومجلة ( تايم ) الأميركيتين، والذي كان مراسلا ً لجريدة ( الصنداي تايمز ) البريطانية في موقع الحدث العام 1973 : quot; إن تحقيقاتي الشخصية والتقديرات الخاصة للأطباء وموظفي الدولة في مسرح الحدث تذكر أن هناك أكثر من ستة آلاف قتيل وأكثر من مئة ألف جريح ومعاق، وأن كثيرا ً من المرضى لم يتركوا بيوتهم الريفية، فيما دفن كثير من الموتى في قبور جماعية أو قبور بدون شواهد.
السؤال الآن : من يحاكم البعث على هذه الجريمة ؟
لغبائه، أو تآمره، أو لاأهليته، ينبغي أن يحاكم البعث أيضا ً، على هذه الجريمة...


عيون الكلام : مثل صيني : إبحث عن أصدقاء أفضل منك، لامثلك تماما ً.

علاء الزيدي
[email protected]