تجدر الإشارة أولاً إلى أن الفكرة القومية هي وليدة الثورة الفرنسية سنة 1789م، حيث تبلورت فكرة أن كل قوم يشكلون أمة تستحق أن تبني دولتها. وأن الدولة هي الغاية النهائية للقوم أو الأمة. وبذلك يمكن القول إن ذلك فتح ما يعرف بعصر القوميات، وبدأ بإنهاء ما عرف بعصر الإمبراطوريات الذي ساد قبل القرن الثامن عشر في العالم، أي أن الإمبراطورية كنظام دولة كانت تتكون من قوميات وطوائف عدة مثل الإمبراطورية العثمانية، والإمبراطورية الهابسبورغية (النمساوية)... الخ. وقد أدى الدخول في عصر القوميات إلى تفسخ الإمبراطوريات تدريجياً وبشكل عنيف ودموي في أغلب الأحيان. وساد أوروبا ثورات سنة 1830م، و1848م، وحروب الوحدة الإيطالية والألمانية. كما شهدت الدولة العثمانية ثورات للقوميات في بلاد البلقان مثل ثورة بلاد المورة سنة 1821م، وما أعقب ذلك حتى الحرب العالمية الأولى من ثورات اليونان والصرب والبلغار... الخ. ولذلك يمكن أن تعزى حروب البشرية في القرنين التاسع عشر والعشرين إلى فكرة القومية، ورغبة كل قوم بالانسلاخ عن الإمبراطورية الأم وتكوين دولتهم القومية.
ولم يكن العرب بعيداً عن هذا التأثير حيث تأثروا مثل غيرهم بفكرة القومية التي تغذت من تراث تاريخي عرف إسلامياً بالشعوبية. ولذلك شهد المشرق العربي منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر تبلور فكرة القومية العربية في مقابل القومية التركية التي بدأت هي أيضاً بالتبلور من خلال الحركة الطورانية التي عبرت عن نفسها من خلال جمعيات عدة تركية مثل تركيا الفتاة. وكغيرها من الحركات القومية بدأت القومية العربية حركة ثقافية تهدف إلى الوعي بالهوية الثقافية العربية وتراثها. ومن هنا بدأت عملية إحياء التراث العربي، والنهوض باللغة العربية حاضنة هذه الثقافة. وقد ساهم المسيحيون العرب لاسيما في لبنان في عملية النهوض الثقافي العربي، وكانوا رواد القومية العربية. وربما هدفوا من ذلك إلى إيجاد مكان لهم في المحيط العربي من خلال فكرة القومية التي تركز على العرق وليس الدين. وبذلك يتم الخروج لهم من دائرة الأقلية الدينية (أهل الذمة) التي تعيش في وسط محيط إسلامي كبير.
وقد خطت الفكرة القومية العربية خطوات كبيرة منذ بداية القرن العشرين مع ازدياد الفجوة بين العرب والأتراك بعد ثورة جمعية الاتحاد والترقي سنة 1908م، واتجاهها على غير التوقع العربي نحو المركزية والتتريك. وبذلك تراجعت الرابطة الإسلامية لصالح الرابطة القومية العرقية. وتم إنشاء العديد من الجمعيات السرية القومية العربية مثل الجمعية القحطانية، والعهد، والعربية الفتاة. ثم جاءت الثورة العربية الكبرى بقيادة الشريف حسين في حزيران 1916م لتشكل مرحلة الانفصال القصري العسكري عن القومية التركية، ومحاولة تأطير القومية العربية في دولة عربية في شبه الجزيرة العربية. وقد كان ذلك هدف ولب مراسلات الشريف حسين (شريف مكة) مع بريطانيا والتي اشتهرت تاريخياً باسم مراسلات الحسين مكماهون، والتي تم فيها تبادل عشر رسائل كانت أهمها الرسالة المؤرخة في 24 أكتوبر 1915م من مكماهون إلى الحسين والتي تضمنت حدود الدولة العربية المزمع إقامتها بالاتفاق مع بريطانيا. ولكن التأمر الاستعماري الأوروبي حاول إجهاض هذه الفكرة من خلال تكريس القطرية وهو ما تم في اتفاقية سايكس بيكو في نيسان 1916، ثم في وعد بلفور في 2/11/1917م وأخيراً معاهدة سان ريمو في 20/ إبريل 1920م.
وبالرغم من الضربة القوية التي تعرضت لها فكرة القومية العربية على يد الاستعمار الأوروبي البريطاني والفرنسي والصهيوني فإن الفكرة القومية بقيت حية في عقل ووعي ووجدان وإدراك الكثير من قيادات الحركة القومية العربية في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين لاسيما في فلسطين وسورية. ومع ذلك بدأت الهوية الوطنية القطرية تنمو على حساب الفكرة القومية والوحدة العربية. ولم ينجح القادة العرب على المستوى السياسي أو العسكري في تجسيد القومية والوحدة العربية واقعاً، كما لم يتجاوز التنظير لها من قبل المفكرين مثل ساطع الحصري وقسطنطين زريق وغيرهم البعد العاطفي الوجداني والفكري المجرد. ومع ذلك ونظراً لتتأجج الشعور القومي على المستوى الشعبي فإن بريطانيا قد خشيت هذا الشعور لاسيما وأن نجم إمبراطوريتها بدأ بالإفول. ولذلك وجهت له ضربة قوية من خلال توظيفه أولاً في مصلحتها وخلق عالم عربي يدور في فلكها، وثانياً من خلال تقزيم الشعور القومي واختزاله في مؤسسة رسمية عربية. ولذلك صرح (إيدن) وزير الخارجية البريطاني سنة 1941م بأنه لا مانع من قيام رابطة ثقافية عربية. وقد تلقف بعض القادة العرب هذا التصريح وبدأت المداولات العربية بقيادة رئيس وزراء العراق _نوري سعيد الموالي لبريطانيا_ والتي انتهت بتشكيل جامعة الدول العربية سنة 1945م والتي شكلت جسماً رسمياً عربياً هزيلاً يحتوى ويختزل الفكرة القومية وآمال الوحدة العربية في هيكلية إدارية بيروقراطية تدور في فلك ميثاق عربي يجسد واقعاً القطرية. وهكذا نجحت بريطانيا خلال وبعد الحرب العالمية الثانية في ضرب فكرة القومية العربية بأيدي عربية كما نجحت سابقاً خلال وبعد الحرب العالمية الأولى.
ومع ذلك بقيت فكرة القومية العربية تداعب أحلام وآمال الكثيرين من مفكري العالم العربي الذين سعوا إلى تجسيد هذه الفكرة واقعاً. وبعد أن يئسوا من الأنظمة العربية الرسمية القائمة اتجهوا نحو تأسيس حركات وأحزاب قومية مثل حركة القوميين العرب التي ساهم جورج حبش وآخرون في تشكيلها عقب نكبة 1948م، وحزب البعث العربي الاشتراكي الذي تم تأسيسه من قبل ميشيل عفلق سنة 1949م. ولكن إشكالية هذه الحركات والأحزاب إنها انطلقت من أفكار مثالية بعيدة عن الواقع الاجتماعي والاقتصادي، حيث كان جل المنظرين لذلك من طبقة المثقفين الذين حلقوا في فضاء روحي أخلاقي يغلب عليه طابع اليوتوبيا.
وقد فشلت الفكرة القومية في التحول إلى واقع معاش نظراً لفشل الأحزاب والحركات التي نادت بذلك. حيث تحولت الفكرة إلى شعارات فقط، ولم تتحول من فكرة وثقافة إلى سلوك ممارس على الصعيد الحزبي الداخلي والخارجي. وتغلبت المصالح الشخصية والحزبية الضيقة على جوهر الفكرة ومتطلباتها. وزاد الطين بلة أن العسكر قد سيطر على هذه الأحزاب وجيرها لنهمه وشغفة بالوصول للحكم فاتخذ منها سلماً للعبث بأحلام الجماهير ودغدغة عواطفه لاسيما وأن الشعور القومي بقى جياشاً ومتأججاً على المستوى الشعبي. فمثلاً نجح العسكر في السيطرة على حزب البعث العربي الاشتراكي في كل من سورية والعراق. ولم ينجح الحزبان في إقامة وحدة عربية قومية بينهما، واستمر الخلاف القطري الحاد بين النظامين بالرغم من الشعارات المرفوعة. وعمل العسكر على احتكار الفكرة القومية واختزالها في شعارات وبيانات وتصريحات جوفاء عن الوحدة العربية. وتم ذلك أيضاً في مصر من قبل الضباط الأحرار وعلى رأسهم جمال عبد الناصر الذي خاض حملة خطب وتصريحات جوفاء باسم القومية العربية لخلق زعامة شخصية له، واتخذ من القضية الفلسطينية مطية لتحقيق زعامته، وتدعيم نظامه السلطوي بالرغم أنه لم يمتلك خطة واضحة المعالم لتحرير فلسطين وقد اعترف هو بذلك، كما ناصرت حكومة الثورة مشروع توطين اللاجئين الفلسطينيين في سيناء سيء الصيت والذي تم إفشاله بسبب المعارضة الشعبية والمظاهرات العارمة التي انطلقت ضده. ولم ينجح جمال عبد الناصر في تحقيق الوحدة العربية حتى بين قطرين عربيين حيث فشلت تجربة الوحدة العربية بين مصر وسورية (1958-1961م) نظراً لطبيعة الوحدة الشعاراتي والتي لم تقم على أسس سليمة ديمقراطية وحدوية بل تم إنشائها بعقلية التبعية والإلحاق، كما أنها كانت تعبر عن مرحلة تكتيكية آنية وليس خياراً استراتيجياً وحدوياً. وهكذا نجد أن العسكر الذين تسلقوا فكرة القومية العربية قد قاموا بتدميرها وقاموا بتكريس أنظمة قُطرية سلطوية، وعززوا من إجراءات الحد من التنقل، واتخاذ النقاط الحدودية طابع أمني قمعي لأبعد الحدود تحت ذريعة حماية الأمن الداخلي. وسادت فكرة الأمن الداخلي والمصلحة الوطنية على حساب الأمن العربي والمصلحة القومية.
وقد جاء الغزو العراقي للكويت في 2/ أب 1990م ليشكل حلقة هامة من حلقات هدم الفكرة القومية وإضفاء مزيداً من التشرذم على الواقع العربي. وقد تم ذلك بفعل العسكر وعلى رأسهم صدام حسين الذي جر المنطقة منذ 1980م إلى حروب لم يجن منها العرب إلا الضعف والهوان والتشرذم، وما تبع ذلك من قيام الأنظمة الخليجية باستضافة القوات الأجنبية على أراضيها ومنحها قواعد عسكرية خشية من البعبع الصدامي أو كما أوحت لها الولايات المتحدة بذلك. وما تلا ذلك أخيراً من سيطرة أمريكية على العراق وإسقاط نظام حزب البعث وعلى رأسه صدام حسين. وبذلك فإن نصف قرن من سيطرة العسكر على الحكم من خلال انقلابات عسكرية بحثاً عن زعامات ومصالح شخصية، وتجيير العسكر للأحزاب القومية في انقلاباتهم كل ذلك شكل ضربات متتالية لفكرة القومية العربية.
والآن تتجاذب الساحة السياسة والفكرية العربية تيارات عدة كل منها يسير في اتجاه وربما مغاير للأخر. فهناك التيارات القطرية التي تسعى للحفاظ على الهوية الوطنية وتعمل على تطويرها وتعزيزها، وهناك التيار القومي الذي لا يزال يدور في فلك الأنظمة العسكرية السلطوية حتى لو كان شعارات ترفع من جهة وفي فلك كتابات المفكرين التي يطغى عليها الطابع المثالي العاطفي الذي يبتعد كثيراً أو قليلاً عن الواقع الاجتماعي والاقتصادي المعاش من جهة أخرى، وهناك التيار الإسلامي الذي يعبر عن نفسه من خلال حركات الإسلام السياسي التي تحاول تجاوز الوطنية والقومية إلى أممية إسلامية. وكل تيار من هذه التيارات ربما يعاني من أزمة بنيوية داخلية إضافة إلى ما يعانيه أزمة ثقة مع التيارات الأخرى إن لم يكن صراعاً يأخذ بعداً خفياً أحياناً ودموياً أحياناً أخرى.
إن هذا المقالة ربما لا تهدف إلى إعطاء أجوبة جاهزة بما يحيط هذه الموضوع ولكن تهدف إلى طرح تساؤلات ربما تثير الجدال والنقاش من أجل الوصول إلى رؤية تساعد في الخروج من الواقع العربي المأزوم على الصعيد الفكري والسياسي. ويكمن التساؤل الأول في كيفية الخروج من الواقع القطري العربي المتشرذم إلى إمكانية تحقيق وحدة عربية ربما على غرار الاتحاد الأوروبي لاسيما ونحن الآن نعيش عصر التكتلات الاقتصادية والعولمة. حيث تنطلق هذه الوحدة من المصالح الاقتصادية بالدرجة الأولى سعياً وراء التكامل الاقتصادي في المناحي المختلفة. وأن تشكل العناصر الأخرى التي تم التغني بها قومياً في القرن العشرين مثل وحدة التاريخ واللغة والدم... الخ عناصر مساعدة ومساندة لمشروع تحقيق الوحدة العربية. وبالتالي نخرج من الإطار الطوباوي المثالي للوحدة العربية القومية إلى الإطار الواقعي القائم على المصالح المتبادلة.
أما التساؤل الآخر فيندرج تحت إطار تلاقى الأفكار والرؤى والتيارات وليس تصادمها أي بمعنى أخر هل يمكن تحقيق التصالح بين التيارات الوطنية والقومية والإسلامية. وأن يتم التلاقي أيضاً على أرضية الخروج من الواقع المأزوم لكل منها. بحيث تعترف القومية بخصوصية معينة للهوية الوطنية، وأن ينظر التيار الإسلامي للتيار الوطني والقومي على أنها حلقات متكاملة تؤدي في نهاية المطاف نحو تحقيق الوحدة الإسلامية، وبالتالي يتم الخروج من حالة الاستقطاب الحاد بل والصراع بين التيارات إلى حالة من الحد الأدنى المتفق عليه تمهيداً للانتقال إلى تحقيق تفاهمات وتقاطعات تتعمق تدريجياً، وتنطلق نحو الخروج من الواقع المأزوم للعالم العربي والإسلامي، والنهوض به بعيداً عن الهامشية التي تتسم به حياته الفكرية والسياسية.
د. خالد محمد صافي
التعليقات