كنت أسمع من بعض الأخوة - هنا وهناك - عن عملية دفن الموتى من مجهولي الهوية في العراق، ورغم أنني على مساس يومي بالأخوة المضطلعين بهذه المهمة، ولكن لحظة سانحة لم تأتني كي أطلع ndash; عملياً - على هذه المسألة عن قرب، ولكن المقادير قادتني ndash; وليتها لم تفعل ndash; إلى أن أقف يوماً ما على هذا الواقع، حين اقتضت الضرورة أن أذهب لبعض الشؤون إلى النجف الأشراف، وصادف أن الشيخ الذي يرافقني، وهو المسئول عن مهمة دفن ( مجهولي الهوية )، كانت لديه ( وجبة ) كما يسميها الشيخ والفتية المتطوعون معه، والوجبة هنا تعني امتلاء برادات ( الطب العدلي ) بالجثث، وهذه التسمية المختصرة تشبه تسمية ( الحصة ) التي يراد منها الحصة التموينية المجهولة النوع والكم.
عرفت أن ( الوجبة ) ستذهب إلى النجف، وألح علي الشيخ أن أستغل هذا التزامن كي أخوض هذه التجربة، حيث سنذهب بسيارة الهيئة الثقافية العليا، وعليه، فاللقاء سيكون في مقبرة النجف الأشراف، ودون لقاء أثناء الطريق، وفي الحقيقة، كان جل همي يتعلق بهذه التجربة الجديدة، وكيفية التعامل معها، حتى انشغلت بهذه المخاوف عن مخاوف الموت والقتل والاختطاف والـــ ( علاسة ) التي يمكن أن تنهشني في المناطق التي تربط بين بغداد والنجف.
وفي النجف، بعد أن دار العاشق حول رمس المعشوق، وبعد أن احتفى المتلاشي بالحظوة بزيارة مولاه، وبعد أن شددنا رحالنا إلى قبر المولى المقدس،وأديناه حقه ndash; الأقل ndash; في التذكر، والبكاء الذي ينم عن الشعور بالتقصير، شممنا نشوة اللقاء، توجهت (ناقة ) الهيئة الثقافية نحو المكان القصي الذي يدفن فيه مجهولي الهوية، وهناك، أحسست أن رجلاي عاجزتان على أن تمنحاني فرصة النزول من السيارة، لهول المشهد، وغياب الضياء في الأفق، واختناق الصدور بالزفرات.
جثث يبلغ تعدادها (175) جثة، بعضها دون رؤوس، والبعض الآخر دون أيدي، والبعض دون أصابع، والآخر دون أرجل، وجثث موثوقة الأيدي بالـــ ( جامعات )، وبعضها مربوط بالـــ (براغي)، أكثرها مشوهة، وعليها آثار الحرق، أو الاحتراق بالمواد الكيميائية، بل بعضها منزوع الأحشاء، والبعض الآخر ممزقة تماماً بفعل الرصاص، والأخرى مقلوعة العيون، أو منزوعة فروة الرأس، وغيرها تحمل النصف الأسفل من الرأس، وجثث منتفخة، وأخرى أدى انتفاخها إلى تشقق البطن أو الصدر، وأخرى تعيث بها أسراب الديدان ( الضرّاع ).
الجثث الـــــ ( 175) كانت مطروحة في العراء، تمر بها الريح لتحمل زفراتها الى أبعد المسافات، وتنشر رائحتها المستغيثة الغاضبة الى سمع أنف الحقيقية، وتصل بصمتها الصاخب الى سمع الملكوت، تفصله عن بعضها الأكياس السوداء، وتجمعها قواسم مشتركة، قواسم تكمن في كونها جثث (قتلى) وليس (موتى)، وثانياً كونها جثث لبشر أو أعضاء لأجساد بشرية وليس لحيوانات، وثالثاً كونها كلها متفسخة وبدرجات متفاوتة أقلها ضياع الملامح، ورابعاً كلها لا تدل على انتمائها لفئة أو طائفة معينة، وخامساً أنها لا تحمل أوراقاً ثبوتية، وسادساً أنها تحظى بشكل متساوٍ بنفس المراسم من حيث التيمم والتكفين والدفن والصلاة.
كنت أحتاج إلى شجاعة فارس كي أقترب من هذه الجثث التي أضفى عليها التعفن والتفسخ لوناً أسود، ولكني كنت أعوّل على الوقت كي أتجرأ أكثر وأكثر، وأقترب لهذه الأجساد التي كانت في لحظة ما تشبه جسدي لولا أن يداً قذرة قد امتدت إليها لتحيلها إلى أشلاء متناثرة تفوح منها رائحة الموت التي تدفع الإنسان للتقيؤ.
كنت أفرض على نفسي أن ترى، ولكني كنت أهرب في لحظات الضعف، كي أتابع حركة المتطوعين الفتية من ( جيش الإمام المهدي ) ومن أتباع المنهج الصدري وهم يدورون كالنحل، بعضهم ينزع القيود عن الجثث، والبعض يجمع الأشلاء، والبعض يطرد الديدان عن الجثث، والبعض يدور على الجثث ليقوم بدور (التيمم) بدلاً من الغسل، وهناك من يحفر القبور، وغيرهم يعد الأكفان، وثمة من ينزلون الجثث من سيارات الإسعاف التابعة ( للطب العدلي ).
الكل كان يعرف دوره، ولم أر أحداً يمتلك سلطة الدفع والتوجيه أو توزيع المهام، كلهم يعمل بإحساس نقي، التاجر، والطالب، والطبيب، والعاطل عن العمل، وأستاذ الجامعة، يجمعهم الولاء للإنسانية، ورغبتهم في ستر ومواراة أخوتهم من بني آدم، في زمن غاب عنه الانتماء للإنسانية، وانشغلت فيه عقول الساسة بالتفاصيل الكبيرة عن هذه التفاصيل الدقيقة المهمة.
أدهشني أن الشيخ المسؤول عن العملية، يتحدث بالهاتف النقال في تلك اللحظات، وفهمت منه أن (مدير دائرة الطب العدلي) يتصل به ndash; الآن - ليخبره بضرورة العودة في الغد مبكراً، لأخذ جثث جديدة، وعرفت في حينها أن هذه المجموعة تقوم بدفن ما لا يقل عن ألف جثة أسبوعياً ( في النجف وحدها ) والتي ضجت بقبور مجهولي الهوية، ولذا لجأت مقبة النجف تستغيث بأختها ( مقبرة كربلاء ) كي تحمل عنها بعض الوزر، فتقاسمت همومها مع مقبرة كربلاء، وانقسم الفتيان إلى مجموعتين، واحدة للنجف، وأخرى تتولى الدفن في كربلاء.
الشيخ المسئول ndash; وليس بمعنى المسئول في الحكومة - ليس جديداً على هذه الإضطلاعة، وليس مراهقاً في عالم دفن الجثث المجهولة الهوية، فهو يملك توكيلاً رسمياً وشرعياً من السيد الشهيد محمد محمد صادق الصدر (عليه صلوات من ربه ورحمة )، منحه إياه - في حياته - للقيام بدفن الجثث التي ترمى في (برادات ) الطب العدلي، والموتى في دور العجزة، والمستشفيات، ممن لا أحد يطالب بهم، وهو مستمر على هذا العمل ndash; مع المتطوعين من أبناء المنهج الصدري ndash; منذ حياة السيد الشهيد وحتى هذه الساعة، دون كلل أو ملل أو عجز، حتى تصورت في لحظة من اللحظات أن هؤلاء الفتية ndash; ربما - يتقاضون المليارات على هذا العمل لشدة حرصهم وحركتهم الدائبة الغيورة، وتسابقهم للعمل، ولكني فهمت أخيراً ndash; وهذا من المفارقات ndash; أنهم بعد أن ينتهوا من عمليات التجهيز والدفن، يجلسون في غرفة، يتناولون عشائهم المتواضع، ويقسمون التكاليف بينهم بالتساوي، وغريب أنني رأيت أحد التجار من المشاركين بعملية الحفر والدفن، يتطوع لدفع حصة أحد الفتيان، لأن هذا الفتى لا يملك دفع حصته لأسباب أهمها أنه خريج كلية اللغات، ولم يجد عملاً بعد لعدم امتلاكه لمؤهل ( واسطة )، وأمه مريضة، وحاله يرثى لها، وحتى أنا، حين حاولت مشاركتهم بالمال، رفضوا ذلك بأدب وابتسامات جميلة، بحجة أنني لم أعمل معهم، بل كنت ضيفاً فقط.
هذه المجموعة، تدفن الجثث دون أن تلتفت إلى انتماء صاحب الجثة، ولا يهمهم أن يكون صدرياً أو (بدرياً) أو (سستانياً) أو (شيعياً) أو (سنياً) أو (مسلماً) أو (مسيحياً) أو (عربياً) أو (تركمانياً) أو (كردياً) ويعاملون مع الجثث كأنها جثث أبنائهم أو أخوانهم أو آبائهم، وليس من شأنهم أن يعرفوا هل صاحب الجثة مع الفيدرالية أو ضدها، أو يؤمن بالدستور أو لا يؤمن، ولا يرغبون ولا يهمهم أن يعرفوا القائمة التي انتخبها، بل كل غايتهم وهمهم هو موارات جسد إنسان، وستر عورة شريك لهم في الوجود والخلق، ولذا، فهم يبذلون جهدهم، وينفقون من خالص أموالهم، ولا يقبلون لأحد أن يدفع لهم مالاً، بل يشترطون عليه أن يشاركهم عملية الدفن ndash; أولاً ndash; وبعدها يتحمل حصته بالدفع على حسب نتائج تقسيم الكلفة على الرؤوس.
وهناك، على مسافة بعيدة، كانت العباءات السوداء لنساء مؤمنات تقتفي أثر الأفق، هن نساء مؤمنات، يسمين أنفسهم بــــ (الزينبيات)، وفيهن من يسمين أنفسهن بالــــ مقتدائيات - رغم أن الأخ مقتدى الصدر يرفض إطلاق هذه التسمية ولكن للمحبة فعلها - جئن مع أزواجهن أو آبائهن أو أخوتهن ليقمن بعمليات دفن أجساد (النساء) من مجهولات الهوية، فالرجال للرجال، والنساء للنساء، وكأن العملية أشبه بتطوع عائلات من مدينة الصدر للقيام بهذه المهام.
هؤلاء الجنود المجهولون يشكون من عطل البرادات في الطب العدلي، مما يؤدي الى تفسخ الجثث سريعاً، وتلف ملامحها، وضياع فرصة أهل المقتول في أن يجدوا قتيلهم، ويضيع فرصة الأرشيف، لأن الشيخ المسئول يقوم بتصوير الجثة، ويكتب بعض علاماتها، ويؤرشفها تحت رقم معين، ويضعها في حاسوبه الشخصي بانتظار من يسأل عن الجثة، وثانياً، هم يشكون من وجود البعض من أهل النفوس المريضة ممن بلغ به حد التسافل أن يبيع الجثث لأهلها، وثالثاً، فهم يشكون انعدام الأمن في مناطق معينة أثناء ذهابهم إلى النجف، مما يضطرهم أحياناً إلى أن يذهبوا متخفين، وربما فرادى، خشية أن تمتد إليهم يد الإرهاب.
هؤلاء، لا يريدون المشاركة في العملية السياسية، ولا يرغبون بمقاعد وزارية، وليس تعنيهم مسألة الانتخابات الأمريكية الجديدة، بل يهمهم أن يعود الأمن، والحد من عمليات القتل، لأنهم إن لم يتعبوا الآن، فسيتداركهم التعب لاحقاُ، ويريدون أن تتفضل الحكومة ndash; مشكورة - على القتلى من أبناء العراق بتوفير ( برادات للطب العدلي ) أو أن يتطوع أحد البرلمانيين بأن يدفع نصف راتبه لشهر واحد لشراء براد جديد، أو يدفع جزء من راتبه لشراء سيارة مبردة لنقل الجثث إلى حيث مواراتها.
باختصار شديد، يريدون للحكومة أن تبر أبناء العراق ndash; على الأقل - في مماتهم، بعد أن عجزت أن تبرهم في حياتهم،،، هل هذا صعب ؟؟
راسم المرواني
مستشار الهيئة الثقافية العليا لمكتب السيد الشهيد الصدر(قده)
العراق / عاصمة العالم المحتلة
عن كتابات
التعليقات