من المفارقات الغريبة التي تميز بها تعامل العرب مع الشأن العراقي، هي محاربة الوضع الناتج من سقوط نظام صدام حسين بكل قوة لأسباب انحصرت بالخوف من امتداد شعاع التغيير بغداد إلى أنظمة الحكم العربية

نتيجة لهذا الحضور العراقي الجديد المتسم بالتحرر والحرية والإحساس بالكرامة الإنسانية، والذي عبر عنه العراقيون بمشاعر صادقة في الشهور الأولى من التغيير، انقلب الوضع عليهم فجأة إلى مشاهد يومية دموية نتيجة تكالب الأنظمة العربية بمخابراتها وأنظمتها الاستخبارية بالتعاون من المنظمات الإرهابية الإسلامية من التكفيريين وبالتنسيق مع أزلام صدام
بفعل التوجه الديمقراطي لنظام الحكم الجديد في العراق والانفتاح الحاصل في حقوق المواطنة والحريات السياسية والاقتصادية التي أخذت حيزها في واقع الحياة المرتبط بالمواطن العراقي، ونتيجة للمحاربة العربية الشديدة لهذا النهج السياسي الجديد في المنطقة، فإن النموذج العراقي تعرض إلى مخاطر أمنية كبيرة بفعل الأعمال الإرهابية المسنودة من العرب ومن غير العرب كايران، خاصة وأن العرب على ما يبدو قد ضاق عليهم فقدان نظام قومي عمل من أجل تحقيق شعارات قومية براقة طوال عقود ونادى بعروبة مشوهة نابعة من أفكار عنصرية، ووشواهد التاريخ أثبتت انهم ارتادوا باستمرار على دعم كل نظام عربي صارم متسلط وناكر لابسط الحقوق المدنية للإنسان، هذه النماذج السياسية المستبدة تميز أفضل نموذج لها حكم الرئيس العراقي الأسبق الذي اتسم بالطغيان وبانتهج كل أساليب القمع والاضطهاد والاستبداد ضد العراقيين وضد الكوردستانيين لتحقيق أحلامه السياسية بالنار والحديد.


وامتدادا لنفس هذا النهج المتسم بعدم العقلانية للعرب، اتسم تعامل الأخير مع العراقيين، وليس النظام، في العهود السابقة بحالة من السلبية الشديدة، يمكن حصر ميزاتها بما يلي: الرغبة في استبداد واضطهاد الأمة العراقية عربا وكردا وتركمانا من قبل نظام البعث البائد وعدم التحرك بأي شكل من الأشكال للتقليل والتخفيف من تلك الضغوطات القمعية على العراقيين، وتوفير الحماية لحكم البعث ونظام الدولة السرية التي بنيت على أسس وقواعد المنظمات السرية لقمع الشعب العراقي، وإنكار حق العراقيين في التصرف حسب مشيئتهم لاختيار نوع نظام حكمهم في إدارة الدولة استنادا إلى مصالح مقومات ومكونات المجتمع العراقي المتسم بالتنوع والتعددية، وعدم الاعتراف بالتعدد القومي والتنوع الديني والمذهبي التي تتسم به الأمة العراقية من قوميات عربية وكوردية وتركمانية وكلدانية آشورية، ومن أديان إسلامية ومسيحية وأيزيدية ومندائية وغيرها، وتوفير الدعم المالي واللوجيستي للنظام السابق بشتى الوسائل خاصة من الدول الخليجية، لإشغال العراقيين بحروب طاحنة كانت كارثية على العراقيين، بينما في عين الوقت كانت تدر بالمنافع والفوائد على الخليجيين وعلى الدول المجاورة للعراق، والتعاطف الشديد والتأييد الواسع للنظام السابق في مغامراته وغزواته خاصة منها غزو دولة الكويت، حتى أن البعض من العرب أخذ به الحلم إلى أبعد مما حلم به صدام نفسه، حبا في إقامة إمبراطورية عربية على حساب دماء شعوب المنطقة، وإنكار المأساة وعمليات الابادة الجماعية التي تعرض لهما الشعبين العراقي والكوردستاني من قبل نظام البعث العربي والتي تجلت أبشعها بإبادة الكرد بالأسلحة الكيمياوية في حلبجة وفي عمليات الانفال السيئة الصيت، وتوفير الدعم المستمر لبعض التيارات العربية الشوفينية التي بنيت قواعدها الفكرية على أسس قومية عنصرية.


أمام هذه السمات التي اتسم بها موقف العرب دوما تجاه العراقيين قبل سقوط صنم الاستبداد وبعده، ظل العرب دائما في حالة سلبية مع العراق لإلحاق الضرر به، وطبقا لهذا المنظور فإن الواقع الجديد الذي برز إلى الساحة لتعامل العرب مع العراقيين بعد سقوط نظام البعث، اتسم بحالة من الكره والحقد والعنف والانتقام الدموي الشديد من أغلبية الدول العربية القريبة والبعيدة من الدولة العراقية عدا الأغلبية من الكويتيين الذين عانوا من مرارات الغزو الصدامي لهم فأبدوا تعاطفا وتأييد للواقع الجديد في العراق، أما البقية فكانت لها موقف سلبي مضر اتسم بالعنف والانتقام من العراقيين نتيجة قناعة الأغلبية منهم بالتخلص من النظام البائد ومن رموزه الذين اتسموا بالطغيان والاستبداد.


ونتيجة لهذا الحضور العراقي الجديد المتسم بالتحرر والحرية والإحساس بالكرامة الإنسانية، والذي عبر عنه العراقييون بمشاعر صادقة في الشهور الأولى من التغيير، انقلب الوضع عليهم فجأة إلى مشاهد يومية دموية نتيجة تكالب الأنظمة العربية بمخابراتها وأنظمتها الاستخبارية بالتعاون من المنظمات الإرهابية الإسلامية من التكفيريين وبالتنسيق مع أزلام صدام، فتحول المشهد العراقي إلى مفردات يومية من العمليات الانتحارية الإرهابية وعمليات اختطاف واغتيالات إجرامية منظمة، وبفعل هذه العمليات تحولت الساحة البغدادية إلى تراجيديا غير مسبوقة محقونة بالدماء والذبح المستمر والقتل الوحشي على الهوية والمذهب، وبذلك تحولت بغداد منبع الفكر والشعر إلى بركة دماء مستديمة بفعل العرب الذين دفعوا أموالا سخية ونفوسا بائسة وأرواحا شريرة لخنق حالة الحرية والديمقراطية المتولدة فيها عن طريق زرع العنف والإرهاب من خلال إدامة عمليات سفك الدماء في بغداد وبعض المناطق من الوسط العراقي بأسباب الديمومة لزهق الأرواح الطاهرة البريئة من العراقيين الذين ذهبوا ضحية لتلك العمليات الإرهابية والإجرامية بفعل النفوس الشيطانية التي تأتي من ديار العرب لتجاهد في قتل العراقيين دون رحمة.


ولا ينكر نتيجة لهذه الأفعال المتسمة بالحقد والانتقام الرهيب، ونتيجة لاستهداف الشيعة من العراقيين في بغداد وفي المناطق التي اتسمت بالعيش المشترك من قبل تلك الزمر والفئات الشيطانية، تولدت ردود أفعال متقابلة بين بعض السنة وبعض الشيعة في بغداد وفي المناطق السنية، ونتيجة لردود الأفعال التي اتسمت في غالبيتها بالانتقام الدموي والفعل الإجرامي، تولد واقع مخيف ومرعب في بغداد، وهو القتل الطائفي الذي انتقل إلى تصفية المحلات ومناطق السكنى من المذهب الآخر استنادا إلى قوة الأغلبية المسيطرة، وبذلك تحولت محلات بغداد إلى سيطرة كاملة لمذهب معين على المذهب الآخر، ونتيجة هذا الوضع ترتب هجر قسري للعوائل ونزوح جماعي إلى مناطق ومحافظات خارج بغداد، ونتيجة هذا الواقع تولدت مأساة إنسانية كبيرة لدى العراقيين يعانون منها بشدة وألم كبير.


وعلى ما يبدو ليس هناك من أمل للعمل على إزالة هذا الوضع التراجيدي في بغداد والعراق من خلال جهود ومساهمات عملية حقيقية من العرب لتغيير نهجهم في دعم إرهاب التكفيريين والصداميين إلى دعم للأعمار والبناء والسلام بالرغم من المحاولات البائسة التي تبذلها الحكومة العراقية لدفع العرب إلى وقف الدعم والتمويل لأهل الإرهاب، وعلى ما يبدو أن هذا الواقع المؤسف قد خلق شعورا منافرا للعرب من قبل العراقيين، لأنه لا أمل يرتجى من العرب والدليل على ذلك الوضع الفلسطيني والملف اللبناني، واستنادا الى هذا الموقف السلبي لهم فان احداث التاريخ المتعلقة بالمنطقة بدأت تعيد تركيبة نفسها، ونتيجة لتعاملهم وتفاعلاتهم غير السوية بحق حقائق التاريخ في المنطقة وادعائهم بما ليس لهم بدأت الحقائق تتباين لهم، بالأمس البعيد فقدوا قدس وبالأمس القريب أضاعوا بغداد، ونتيجة لهذه النتائج المريرة ولكي لا تفقد عواصم أخرى، الأحرى بهم العودة الى جذورهم ولهذا باتت القاهرة تحاول أن ترجع إلى فرعونيتها، وعواصم المغرب باتت تفكر في العودة إلى أصلها الأمازيغي والقبائلي والبربري، وخرطوم إلى أفريقيتها، وبيروت الى نسيجها الانساني المتنوع، وعواصم الخليج الفارسي الى خليجيتها، وطرابلس ونواكشوط الى افريقيتهما، ودمشق حان لها الوقت ان تفكر في التغيير، والمكة والمدينة والرياض ليست ببعيدة عن التجديد، كل هذا كارتداد ورد فعل على ما وصل اليه حال العرب بسبب غياب التعقل والتفكير الصائب المستند إلى التعامل مع الحياة وحقائق الأمور بمنطق العقل والعلم والفكر السليم النابع من المنظور الإنساني الحقيقي.


ولكن في العراق، بالرغم من كل هذا، يبقى الأمل الأول والأخير بيد العراقيين لادامة وتواصل التغيير الحاصل فيهم، لانهم بسقوط الصنم عادوا الى عراقيتهم الاصيلة، ولكنهم جوبهوا بهجمة شرسة وبسهام ورماح غادرة من العرب ومن جيران لهم ومن قوى قابعة في دهاليز الظلام، ولكنهم مع كل هذه الالام فهم أهل للنهوض من الجراح الاليمة التي اصابتهم لخلق وصنع الأمل حتى لو طال بهم الزمن، والمفيد أن الطويل من هذا الزمن قد فات وبات القصير الباقي منه على الانتهاء بفعل همة العراقيين، شيعة وسنة وكردا، وبفعل نخوتهم العراقية الأصيلة لإخراج هذا الأمل المنشود الذي بدأ بالشروق للعمل على تأمين الأمن والاستقرار في بغداد وعودة الحياة الطبيعية إليها بنسيجها القومي والديني والاجتماعي المتنوع وبنسيجها الثقافي المتعدد لتكون هذه العاصمة الفيدرالية وهذا العراق الجديد منارة للحرية والديمقراطية والكرامة والبناء والتنمية الحقيقية للعراقيين جميعا ولكل شعوب المنطقة المؤمنة بالإنسانية والمحبة للسلام.

جرجيس كوليزادة
كاتب عراقي كوردي
[email protected]