يعيش في بلاد المنفى مئات الألوف من العراقيين معظمهم من الأكراد الذين كانوا أكثر حظا من بقية العراقيين بتوفر سبل الفرار من بلدهم، سواء عن طريق إيران في الثمانينات أثناء الحرب العراقية الإيرانية حينما كانت الحكومة الإيرانية تقدم تسهيلات مغرية جدا لفرار الشباب العراقي من جبهات الحرب وتعمل حثيثا على تسفيرهم الى الدول الأوروبية في ظرف لم يكن يتجاوز يومين أو ثلاثة مما شجع الكثير من الشباب العراقي على محاولة إجتياز الحدود مع ايران للوصول الى (الجنة الأوروبية!)،وأكملت تركيا في التسعينات الدور الأيراني في إستنزاف القوى البشرية في العراق،وإن في غفلة عن السلطات التركية حيث كانت هناك مافيات متخصصة في تهريب العراقيين خاصة في اسطنبول التي كانت مركزا لتجمع تلك المافيات.
كانت ظاهرة اللجوء مستشرية منذ بداية الثمانينات وحتى قرب سقوط النظام السابق،وتمكن الآلاف من العراقيين من تحقيق أمنياتهم الغالية بعد إجتياز أهوال الطريق،منها الحشر داخل شاحنات اللحوم المغلقة أو في فسح فارغة من محركات القطارات أو بأيجاد موطيء قدم داخل سفينة أو عبارة،فيما قضى آخرون منهم غرقا في بحار الأرض تلتهمهم الأسماك. واليوم تشكل الجاليات العراقية المنتشرة في أرجاء العالم نسبة جيدة قياسا الى دول الشرق الأوسط الأخرى.
لا أريد الخوض في الجوانب الإيجابية أو السلبية لتلك الهجرة القسرية التي فرضتها السياسات الظالمة لنظام الرئيس السابق ضد شعبه وافتقاد البلد الى جميع أنواع الحريات بما حول هذا البلد الى سجن كبير تضج بالعراقيين من مختلف الطوائف والقوميات والأديان، فكانت لتلك الهجرة حسناتها و سيئاتها،في مقدمة سيئاتها إفراغ البلد من الطاقات الشبابية المبدعة التي لولا سنوات الحكم الدكتاتوري لكان بالإمكان إستثمارها لبناء دولة نموذجية في المنطقة خاصة وأن العراق يزخر بموارده الهائلة وخيراته الوفيرة.
وبالمقابل كانت هناك جوانب إيجابية متعددة أيضا لتلك الهجرة القسرية، في مقدمتها بإعتقادي التغيير الذي حصل في شخصية الفرد العراقي اللاجيء الى تلك البلدان المتحضرة وهذا التغيير نكاد نلمسه في الكثير ممن يعودون اليوم الى وطنهم في زيارات متكررة بعد سقوط النظام،وهو تغيير ناشيء بطبيعة الحال من خلال إمتزاج العراقيين مع ثقافات الدول التي عاشوا فيها ردحا من الزمن، فالمعروف عن الشخصية العراقية تأقلمها السريع مع البيئة التي تعيش فيها، حتى لو كان هذا التأقلم سلبيا في بعض الأحيان مثل إندفاع الألوف من العراقيين للإنتماء الى الحزب الشيوعي في الخمسينات وقبولهم لفكر أممي وافد من الخارج متعارض مع المعتقدات الدينية في مجتمع محافظ كالمجتمع العراقي، ثم الإنتماء الجماعي الى حزب البعث أثناء حكم النظام السابق.
ولابد من الإشارة الى نقطة هامة جدا تعتبر في مقدمة محاسن تلك الهجرة،وهي إكتساب اللاجئين العراقيين للكثير من الخبرات العلمية والثقافية والتكنولوجية التي يفتقدها البلد بسبب سنوات الحكم الدكتاتوري وحرمانه من الإطلالة على مبتكرات العصر وثورة الإتصالات والتكنولوجيا التي شهدها العالم في العقدين الماضيين،فلم يكن كل العراقيين الذين عاشوا في الخارج يعملون في غسل الأواني بالمطاعم أو يكنسون الشوارع كعمال بلديات، بل ظهر منهم عشرات الآلاف من المبدعين في شتى مجالات الحياة،وإزداد المبدعون أصلا إبداعا على إبداع نظرا للحريات التي توافرت لهم في تلك البلدان وإفتقدوها في بلادهم. وهذه النقطة بالذات كانت تدفعني في الكثير من اللقاءات والمناسبات أن أثيرها مع بعض القادة والمسؤولين الذين كنت ألتقيهم بحكم عملي الصحفي.فقد كنت أطرح على هامش تلك اللقاءات دائما فكرة الإستفادة من تلك الكفاءات والمؤهلات سواء من قبل الحكومة الأقليمية أو الحكومة العراقية من خلال تقديم المغريات لجذب هؤلاء الذين يتمتع الكثيرون منهم بجنسيات ثانية مما يعني وجود فرصة العودة الى بلدانهم الثانية إذا لم يجدوا الفرص المناسبة لهم في بلدهم.وفي محاولاتي لأقناع هؤلاء المسؤولين بوجهة نظري، كنت أضرب لهم مثلا لتجربة خاضها النظام السابق في أواخر السبعينات عندما أصدر قانون أصحاب الكفاءات بهدف إعادة العقول العراقية المهاجرة الى البلد وتقديم إغراءات مادية ومعنوية كبيرة لتشجيع عودتهم لخدمة بلدهم، ورغم أن التجربة فشلت بسبب معرفة العراقيين في المهاجر بالأهداف الحقيقية للنظام الذي بدأ يأخذ مسلكا واضحا لعسكرة الدولة فخيبوا آماله بالإستفادة من تلك العقول وتسخيرها في بناء أسس دولة دكتاتورية بنظام شمولي، ولكني مع ذلك كنت وما أزال أرى ضرورة تشريع قانون مماثل أو شبيه بذلك لتتمكن الدولة من إستيعاب المهاجرين الذين أصبحت لهم وزارة أيضا في العراق، ولكن ما نلمسه الآن هو عكس ذلك تماما.وهذه هي الطامة الكبرى.
فمنذ سقوط نظام صدام هناك العديد من العراقيين الذين يرغبون بإنهاء إقامتهم في الخارج والعودة الى أحضان عوائلهم وبلدهم،ولكن هناك عقبات عديدة تحول دون ذلك في مقدمتها مسألة التدهور الأمني، وهذه المسألة باعتقادي يمكن معالجتها على الأقل بإعادة إسكانهم أو تعيينهم في بعض مؤسسات الدولة بشكل مؤقت في بعض المحافظات التي تتمتع بإستقرار نسبي لحين عودة الأمن والاستقرار الى العراق بأكمله.
والمثير للإستغراب في هذا الجانب هو محاولات الحكومة العراقية وكذلك الحكومة الكردية لإقناع دول العالم وخاصة الدول الأوروبية التي يتركز فيها الوجود العراقي بعدم إرسال هؤلاء العراقيين الى بلدانهم بذريعة عدم وجود إستقرار أمني في البلاد، حتى الحكومة الأقليمية تدعى ذلك، مع أن محافظات الأقليم تشهد إستقرارا يكاد يكون كاملا!!.
نحن نعلم أن الجالية العراقية في الخارج كانت الى أشهر ما قبل سقوط صدام حسين تحظى بإحترام الكثير من الحكومات والمجتمعات الغربية بسبب ما كان العراقيون يعانونه من ظلم وإضطهاد النظام، ونعلم أيضا بأن هذا الوجود العراقي في العديد من الدول الأوروبية أصبح اليوم أمرا غير مرغوبا به لأسباب متعددة، لعل من أهمها تلك الهجمات الإرهابية التي طالت بعض العواصم والمدن الغربية والمدفوعة بإتجاه القوى الإسلامية، فأحترقت الجالية العراقية مثل بقية الجاليات العربيية والإسلامية ألأخرى بنيران تلك الهجمات، كما أننا نعلم أن هناك الكثير من الدول الأوروبية تعاني من مشكلة الهجرة وتشترع قوانين عديدة للحد منها وحسم الحالات المعروضة عليها بالرفض والطرد.
قبل أيام كنت عند أحد أعضاء قيادة حزب حاكم في أقليم كردستان نتجاذب أطراف الحديث في السياسة وما آلت إليه الأوضاع في المنطقة. سمعت من ذلك المسؤول قولا أزعجني الى أقصى الحدود.فقد أسر لي أن الحكومة الأقليمية أعادت ما يقرب من نصف مليار دولار من تخصيصات الميزانية السنوية الى الحكومة المركزية في بغداد بسبب عدم وجود مشاريع لديها؟!.
وقد يكون هذا المبلغ مبالغا فيه بعض الشيء،أو قد يكون الطرح نفسه مبالغا، لكن مما لا شك فيه أن هناك أموال إستعادتها الحكومة العراقية من حكومة الأقليم التي لم تستطع التصرف بها لإقامة المشاريع العمرانية أو الخدمية خلال السنة المالية المحددة، ويتأكد ذلك من خلال إجراء مقارنة بسيطة بين مقدار الحصة المقررة من ميزانية الدولة العراقية لمنطقة كردستان والبالغة 17% وبين مستوى المشاريع المنفذة في المنطقة التي نعيش واقعها اليومي.
فلنفرض أن ميزانية الدولة العراقية بلغت 100 مليار دولار فإن 17 مليار ستأتي الى الأقليم.
وتجدر الإشارة هنا الى أن حصة الأقليم من عائدات النفط العراقية أثناء تنفيذ مذكرة التفاهم لبرنامج النفط مقابل الغذاء لم تكن تتجاوز 13% وللحقيقة فإن نصف هذه النسبة لم تكن تأتي الى كردستان في وقتها بسبب تلاعبات النظام السابق ووضعه العراقيل أمام التنفيذ الأمثل للبرنامج في المنطقة الكردية الخارجة عن سيطرته، ولكن مع ذلك إستطاعت وكالات الأمم المتحدة رغم فسادها وعدد من المنظمات الأجنبية العاملة في كردستان من إعادة إعمار آلاف القرى والمدن الكردية بتلك الحصة القليلة التي كانت مقتصرة على العائدات النفطية فقط وليست مثل الآن مفتوحة على كل الموارد المالية في العراق.
فلماذا تعاد أموال مخصصة للأقليم الى ميزانية الدولة من دون صرفها في إقامة مئات المشاريع الجديدة في المنطقة؟اليس من الأجدر بحكومة الأقليم بدل أن تتوسل الى الدول الأوروبية بعدم إعادة اللاجئين الكرد إليها، أن تعمل بهذه الأموال المخصصة لها من ميزانية الدولة وهي حق لأبناء المنطقة لإستقطاب هؤلاء المهجرين واللاجئين وتوفير مستلزمات حياتهم المعيشية من السكن والوظيفة وتقديم القروض المالية لتنفيذ مشاريعهم الإقتصادية أو العمرانية التي ستكون في المحصلة جزءا من تقدم المنطقة؟!
اليس من الأفضل للحكومة الأقليمية أن تستثمر تلك الأموال الضخمة لبناء ملايين الوحدات السكنية بما يوفر لكل عائلة مسكنا ووظيفة وسيارة وهذه من أبسط حقوق المواطن على الدولة؟!
الى متى يبقى هؤلاء المهجرين مشتتين في بلدان المنافي لا يجدون في وطنهم ملاذا يعيشون فيه بدل العيش على فتات الموائد أو بصدقات من بلديات بعض الدول الأوروبية؟!
أي حكومة هذه التي ترفض إعادة مواطنيها الى بلدهم والعراق بخيراته وموارده الهائلة ليس بحاجة مثل بعض الدول الفقيرة الى التحويلات المالية لأبنائها في الخارج لكي تستثمرها في الداخل، فالعراق تفيض به الحاجة الى الكثير من هذه الأموال، ولكنه يحتاج على ما أعتقد الى العقول المفتوحة التي تفكر بمصلحة البلد وليس بمصلحة هذا الحزب أو ذاك،كما هو الحال في العراق اليوم حيث أصبحنا نرى الآلاف من أثرياء السلطة على غرار أثرياء الحرب،وقد لا تمر سنوات حتى يتكشف رصيد هؤلاء الأثرياء أو تكشف مجلة غينيس أو صحيفة عالمية مقدار الأموال التي يكتنزونها في حساباتهم بالخارج؟!!
لقد آن الأوان للعراق أن يستفيد من خبرات وكفاءات أبنائه المشتتين في الخارج بدل استئجار بعض المرتزقة لإدارة شؤون البلاد، أو التعويل على هذا الحزب أو ذاك في السير بالبلد نحو التقدم والرفاهية المنشودة، فالسنوات الثلاث التي مرت على العراق أثبتت عقم فرص التحول بسبب الصراعات الحزبية والطائفية وتؤكد مدى الحاجة الفعلية لخبرات وكفاءات أبناء الخارج.فرحمة بالعراق أعيدوا أبنائنا و لا تصدوهم، فهو لهم كما لنا.

شيرزاد شيخاني

[email protected]