بدون دمقرطة ولا سفسطة طالعتنا الأنباء الآتية من البيت الأبيض بتراجع الرئيس بوش عن مشروعه الخاص بنشر الديمقراطية في الشرق الأوسط، وذلك بناءً على توصيات كبار مستشاريه ومعاونيه، وبعد دراسات مستفيضة من المؤسسات الأمريكية المتخصصة في العمليات الديمقراطية المستعصية، كما أن التصريحات الغامضة والمتناقضة للسيدة رايس وزيرة خارجيته خلال زيارتها للمنطقة العربية تصب أيضاً في هذا الاتجاه، والسبب في هذا التراجع وهذه التوصيات وتلك التصريحات هو ما أسفرت عنه نتائج الانتخابات التشريعية في كل من مصر وفلسطين، ففي مصر أعطى الشعب المصري 20% من مقاعد مجلس الشعب للإخوان المسلمين وهذه النسبة طبعاً مع توخي الحذر والرأفة والحيطة من جانب الحكومة التي لولا تدخلها المباشر لرأينا مجلس الشعب المصري كله من الإخوان. كما أعطى الشعب الفلسطيني أيضاً لحركة حماس النسبة الكاسحة من الأصوات التي تمكنها من تشكيل حكومة منفردة دون الحاجة إلى التحالف مع حركة فتح أو أي من الحركات الأخرى.
عند هذا الحد كان لابد أن يفرح جورج ويهلل لأن الديمقراطية التي وضع بذورها ndash; كما يحلو له أن يقول ndash; في العراق قد آتت أكلها في مصر وفي فلسطين، فكما اختار العراقيون ممثلوهم من الشيعة، فإن المصريون والفلسطينيون اختاروهم من السُنة، إلا أن جورج لم يكن مسروراً لا في الحالة المصرية ولا في الحالة الفلسطينية.
ففي الحالة المصرية مثلاً لم نره منذ أن قرر نشر ديمقراطيته في الشرق الأوسط ndash; لم نره ndash; يغضب عندما تم القبض على عشرات المعارضين من الإخوان المسلمين وعلى رأسهم الدكتور عصام العريان، بينما أظهر العين الحمراء للحكومة المصرية في قضية الدكتور أيمن نور ومن قبلها قضية الدكتور سعد الدين إبراهيم، وخلال الانتخابات المصرية لم نر أي بوادر غضب أمريكي ndash; اللهم إلا بعض البيانات الملتوية - عما حدث فيها من تزوير لصالح الحزب الوطني على حساب الإخوان المسلمين وهذا كان موثقاً من القضاء المصري.
وفي الحالة الفلسطينية، بعد أن ألجمته صدمة نجاح حماس، رأيناه يقول إنه سعيد بأن الشعب الفلسطيني اختار ممثليه بحرية وديمقراطية، ثم ما لبث أن قال أنه لن يتعامل مع حماس ولن يُقدم أي مساعدات للفلسطينيين طالما أن حماس هي التي ستشكل الحكومة، كما لم تفوت إدارته ومساعدوه فرصة إلا وحرضوا الدنيا بأسرها على حركة حماس وأوسعوها تهديداً ووعيداً، بل أفقدته الصدمة صوابه فقرر سحب المساعدات التي سبق أن أرسلها للسلطة الفلسطينية.
والحقيقة أن المرء يُحار في فهم السياسة الأمريكية، وفهم رئيسها، فهل تريد أن ترى الديمقراطية في المنطقة العربية يا جورج أم لا تريد ذلك؟؟ إذا كنت تريدها فما رأيته هو نتاج الديمقراطية الذي تريده الشعوب، وليس ضروريا أن يكون وفقاً لرغبتك ورغبة مستشاروك، فالشعوب تتلهف على التخلص من جميع رجالك المنتشرون في الشرق الأوسط الكبير، والمفترض بك كراع أول ووحيد للديمقراطية والشفافية في العالم أن تقبل بمن تأتي بهم الديمقراطية، وأن تتعامل معهم بكل احترام لأنك في هذه الحالة تتعامل مع الشعوب، ولكن بكل أسف موقفك هذا يثبت أنك لا تجيد ولا تحب التعامل مع شعوب الشرق الأوسط اكتفاءً بالتعامل مع أسيادهم الحكام.
وطالما رجع جورج في كلامه وتحلل من وعوده التي أطلقها في ساعات تجلياته الروحانية، فسوف نرى لأول مرة الشعوب العربية وحكامهم يخرجون معاً في مظاهرات عارمة فريدة من نوعها بعد الانتهاء من قصة الدنمرك، لتشكر الرئيس الأمريكي على هذه اللفتة الكريمة التي ينتظرها الجميع - مع إنه أصلاً لم يكن قد تقدم حتى يتراجع.
فجورج بهذا التراجع أسدى لشعوب الشرق الأوسط الكبير والصغير خدمة كبيرة جداً من حيث لا يدري، فبنكوصه عن مشروعه الخاص بدمقرطة العرب يكون قد أنقذ الشعوب العربية من الديمقراطية التفصيل على قياس بعض الزعماء وأبناءهم، ووضع الشعوب أمام واقعها المر الذي سيدفعها إلى استخلاص ديمقراطيتها بنفسها ولنفسها، والتي ستكون قائمة على العدالة والحرية والشفافية ومحاربة الفساد وتداول السلطة بلا تفرقة ولا تأبيد.
أما الشريك الآخر في المظاهرة الفريدة وهم الحكام فإن خطوة جورج للخلف أزاحت عن كاهلهم حملاً ثقيلاً كان يؤرق لياليهم، بما يتيح لهم حرية الحركة والقفش والنتش سجناً وتعذيباً لشعوبهم بلا خوف ولا رحمة وهم آمنون من النقد الأمريكي والغربي.
وفي غمرة غرور القوة وعظمة الجبروت كما هي عادة كل ديكتاتور، يزداد الظلم والقهر، وتتوالى الأعمال السيئة من الحكومات، وعندما يتيقن الحكام من أن قوتهم لا غالب لها وأن الأمر قد استتب لهم، فجأة تنفجر كل الجروح المتقيحة التي جلبوها لشعوبهم، فتنتفض انتفاضتها المرتقبة التي آن أوانها منذ فترة طويلة ولكن وقف في طريقها مؤقتاً ظهور السيد جورج في الصورة العربية بمشروعه المزعوم.

عادل الجوهري