يرفع ساستنا في العالم العربي شعاراً واحداً ودائماً يتردد من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب، ويتعاملون معه وكأنه ترنيمة مُقدسة لا يأتيها الباطل من خلفها أو من بين أيديها. مقولة مصونة ومحصونة لا يتمكن من استخراج معانيها إلا هم وحدهم، أحاطوها بالغموض الذي جعل منها قراراً باتاً نهائياً لا يقبل نقضاً ولا إبراماً ولا يجوز فيها عفواً ولا استرحاماً، وهي بعبارة واحدة: (لا للأحزاب الدينية!!!).
ولديهم لذلك المبررات الجاهزة والمتحفزة، فالأحزاب كما يصفونها ويصنفونها ويريدونها وعاءً يحتوي على شتى أطياف المجتمع التي يجب ألا تقتصر على فئة دون غيرها، فالحزب في هذه الحالة يتكون من مجموعة من أفراد المجتمع متعددي الديانات والسياسات والأجناس، وبهذا يكون معبراً عن جميع فئات الأمة بما فيها من تناقضات وخلافات ستؤدي في المنظور القريب ndash; وفقاً لما يهدفون - إلى قيام أحزاب غير مستقرة تموج بالسلبيات، وفي المنظور البعيد ينتج عن سلبياتها انقسامات داخلية نتيجتها الحتمية تفتيت الحزب مثلما حدث مع أكثر من حزب من أحزاب ما يُسمى بالمعارضة، وهذه سياسة تجيد لعبها الحكومات العربية جيداً بما يجعل من الحزب الواحد والوحيد والمتحكم هو الحاكم والقابض على السلطة بيد من جبروت.
أما في حال قيام حزب على أساس ديني، فسوف لن يكون هناك مجالاً لهذه الانقسامات نظراً لتوحد الفكر والرؤى والرؤية ووضوح الأهداف بما يجعل منه حزباً قوياً تلتف حوله الجماهير بما يؤثر بالطبع على الحزب الواحد والوحيد والمتحكم مثلما حدث في الانتخابات البرلمانية المصرية الأخيرة والتي كشفت عن مدى هشاشة الحزب الوطني الحاكم لولا استعانته بالحديد والنار وهي الوسيلة الإستراتيجية الوحيدة التي أبقت عليه على الساحة السياسية حتى الآن.
لهذا السبب فقط، هم يمتطون ببراعة الحملة العالمية الظالمة ضد الإسلام ويوظفونها لمصلحة الأحزاب الحاكمة التي أثبتت التجربة مرات عديدة أنها أحزاب مكروهه من حيث مكوناتها القائمة على المصالح المادية الشخصية ومن حيث أعمال حكوماتها التي لم ولن تعود بأدنى فائدة على المواطنين والأوطان.
في فكرهم الجديد والقديم لا يجب أن يقوم أي حزب على أساس ديني، وهم بذلك يقصدون الدين الإسلامي لا سواه، فلو كانت أوطاننا العربية ليس بها إسلاماً ndash; حاشا لله ndash; لكان قيام الأحزاب على أساس ديني جائزاً ومستساغاً لأنه في هذه الحالة سيكون متوافقاً مع النظام العالمي الجديد الذي لا مكان للإسلام السياسي فيه، وحبذا لو لم يكن للمسلمين فيه وجوداً من الأساس. هذه هي نظرية منع الأحزاب الدينية.
وعلى أي حال، ولو استبعدنا فكرة معاداة الإسلام حتى لا نستعدي الآخرين، ففكرة عدم قيام الأحزاب على أساس ديني (إسلامي) بصورة مبسطة، كما يقول ساستنا وهم دائماً على صواب، فقولهم هو السيف في حده الحد بين الجد والهزل، يقولون أن المسلم عندما يشتغل بالسياسة ويتصدى لها تسيطر عليه مقدماً فكرة دينية تحتكر الحكمة لصالحه، بحيث لا يُمكن مناقشته عند أي اختلاف سياسي، لأنه دائماً ما يرد فكرته إلى القوى الدينية التي لا قِبل للآخرين من السياسيين بها، وهنا يكون النقاش السياسي قد وصل إلى الطريق المسدود، حيث لا يُمكن مناقشة فعلاً أمر به أو نهى عنه الله سبحانه وتعالى.
وعلى ذلك فالإسلاميين في نظرهم لا يصلحون للعمل السياسي وإن كان لابد أن يكون لهم دور في أوطانهم فليكن دوراً اجتماعياً لا يتعدى أعمال المواساة عند الوفاة، أو الأعمال الفردية للإنقاذ عندما تنفجر في أحد المواطنين أنبوبة غاز، ولا بأس أيضاً عندما تهاجم بلاد المسلمين بين الحين والآخر بعضاً من الزلازل أن يكون لهم دوراً في استخراج الجثث من بين حطام المنازل.
هذه فقط هي الأعمال التي يُمكن أن تسمح الدول العربية بها لمواطنها المسلم الذي يتطلع إلى العمل السياسي العلني العام الذي يتيح وفقاً لأزهى عصور الديمقراطية العربية تداول السلطة بشكل سلمي دون أن تُراق دمائه ودماء أنصاره على أعتاب اللجان الانتخابية.
الساسة في العالم العربي كما هو معروف عنهم، لديهم من بُعد النظر ما يجعلهم ينافسون زرقاء اليمامة ويتفوقون عليها، وإن كانت زرقاء اليمامة مشهورة بقوة البصر في محيطها المكاني، إلا أن قدراتهم تخطت محيطهم المكاني مخترقين الحاجز الزماني فتمكنوا بذلك من استشراف المستقبل مروراً بجدران الحاضر السميكة فتوصلوا إلى رؤية ما لا يراه غيرهم من العالمين.
لقد رأوا أن العالم لا يمكن أن يعيش بسلام وأمان إذا ما تمكن الإسلاميون من الوصول إلى الحكم، وأن الحل الوحيد ليستتب الأمن العالمي هو أن حكامنا وأبنائهم وأحفادهم يجب أن يظلوا قابضين على أنفاس مواطنيهم، جاثمين على صدر الأوطان لتتمتع شعوب العالم بالأمان بدءاً بأوربا الغربية مروراً بالشرقية انتهاءً بالأمريكان.
وإذا أردنا أن نقف على نظريتهم الخاصة بأن مناقشة الفكر الديني تقود دائماً إلى طريق مسدود- مع أن ذلك ليس صحيحاً على إطلاقه، فكل شيء في الإسلام المعتدل مُباحة دراسته والتحاور حوله وصولاً إلى حلول تتماشى مع مقومات الحياة وتطورها شريطة عدم مخالفة النصوص الصريحة التي لا يجوز فيها الاجتهاد- يتضح أن القاعدة التي يبني عليها رافضي الأحزاب الدينية قاعدة مغلوطة من الأساس، وعلى الرغم من ذلك، نستطيع جدلاً أن نوافقهم الرأي، ولكن بعد أن نتوجه إليهم بسؤال قد يكون وجيهاً، وهو: هل يستطيع مواطن عربي أن يُناقش أو يختلف مع قرار أصدره حاكم عربي أو ما يُطلق عليه القيادة السياسية؟؟ وما هو مصير هذا المواطن؟؟ إن السجون المكتظة بما يُطلق عليهم سجناء الرأي الذين اختلفوا مع فقه الحكام، خير شاهد ومجيب عن أي استفهام.
لن نتجاوز الحدود إذا قلنا أن الحاكم العربي غرته الدنيا وما ينعم به فيها من الجاه والسلطان، فنسي نشأته ونسي كيف كان، وقدسه منافقوه فرأى نفسه إلها وليس من بني الإنسان، ونظر حوله فإذا به يحي ويميت، ويمنح ويمنع، ويعز ويذل، فلما لا يحاول الإتيان بالشمس من المغرب وإنزال المطر على الأوطان.
وطالما هذا هو الواقع وأصبح الحاكم إلهاً كاملاً على الأرض لا يقبل الاختلاف أو النقد، فهو والأحزاب الدينية صنوان، متشابهان. فإذا كان نتيجة ذلك منع قيام الأحزاب على أسس دينية، فما هو أساس وجود القيادة السياسية؟
عادل الجوهري




التعليقات