بعد مسلسل القتل والتخريب والدمار الذي يعم الوطن العربي والإسلامي لأبسط الأمور وأتفهها، وينساق لأجل صورة دنمركية الشعب العربي والإسلامي بمسيرات دموية غاضبة مخلفةَ خلفها الدمار والحرق وتشتعل معها الحناجر والمنابر مرددين شعارات متطرفة وهم بذلك يعتقدون بأنهم كالقطب من الرحى في هذا العالم ويتناسون إنهم شعوب مازالت تستجدي خيرات الغرب الكافر!!!

ومازال هذا المسلسل الدموي يعاد بصورة أخرى في العراق الجريح بعد تفجيرات سامراء ويبدأ بعدها المهرجان التسويقي لكل طائفة في استعراض شعبي كبير يعم العراق ويذهب المحرومون والفقراء حطبا لتلك الشعارات. ويدمر العراق مرة أخرى بأيدي ألإرهابيين وبأيدي أبنائها البررة!! في حرب طائفية طالما سعى لخلقها التكفيريون في خطة محكمة استهدفت القبرين بسامراء.

ولا أدري هل مشاعر الناس تؤجج من أجل مسجد أو صورة!! ولا يتحركون لأولئك الذين يسحقون كل يوم في العراق من الانتحاريين، ولم نجدهم خرجوا بمظاهرات ومسيرات غاضبة من أجل الآلاف الذين قتلوا في العراق أو الآلاف في الجزائر أو من أجل الملايين الذين يموتون جوعا في القارة السوداء، تلك هي مهزلة العقل العربي.

وهكذا يجد المسلمون في كل البلاد الإسلامية والقنوات الإخبارية والمنابر ضالتهم في هذه القضية الساخنة - وما أكثرها في هذا الوطن العربي - متنفساَ لسرد النظريات المؤمراتية ونظرية الصراع الأمريكي الصهيوني لسلب خيرات الوطن العربي والإسلامي ونظرية إسرائيل من الفرات إلى النيل، والطريف في هذا الوضع المبكي أن يقوم البعض بتسويق فكرة مضحكة إن هذا الانفجار جاء لإبعاد المسلمين عن الرسوم الكاريكاتوريةالمسيئة للنبي محمد (ص).

ولا أعلم هل يحتاج عالمنا العربي لكل هذا الجهد المبذول من الدول الغربية من أجل أمة لا تستطيع أن تصنع أعواد الكبريت أو دون اللجوء لدولهم حين تضيق عليهم بلدانهم أو لأمة تعيش على تفسير الأحلام وفكرة عودة الخلافة الإسلامية من خلال معجزة كطوفان نوح يدمر العالم أو خروج المهدي أو صاعقة من السماء على العالم الكافر، بل من يحتاج لصاعقة تعيدهم لصوابهم؟

لماذا لم يستفد العرب من تجارب الأمتين اليابانية والألمانية بعد أن حولتها الحروب الطاحنة في القرن الماضي إلى أشلاء ممزقة ودمار كبيرين، وكيف استطاعوا النهوض من كبوتهم القاسية من قوات التحالف وكيف قرروانبذ العنف والتطهير العرقي إلى العمل والبناء إلى أن أصبحتا قوتين عظيمتين في المجالين الفكري والتكنولوجي.

لماذا لم نستفد من تلك التجارب التاريخية الحديثة؟

أم إن العقل العربي يعاني من نوبات الهلع والخوف من الآخر، أم هي (جينات وراثية عربية وإسلامية ) غير مستعدة من الاستفادة من تجارب الآخرينكما يقول الدكتور أحمد البغدادي ويجيب عن ذلك التساؤل د.تركي الحمد في كتابه ( السياسة بين الحلال والحرام ) الذي يعزي هذا التقهقر إلى فكرة ( الحركة والسكون ) إشارة منه إلى قول إرنست رينان quot;.
إن أعظم تقدم قام به الفكر الحديث هو في إحلاله فكرة الصورة محل فكرة الوجود، وفكرة النسبي محل فكرة المطلق، والحركة محل السكون quot; وهذا التصور هو أفضل تلخيص للعصور الحديثة والفلسفة القائمة على التغيير والحركة والذهنية المفتوحة على الحضارات وهي على العكس في الذهنية العربية التي ربيت على الشك والخوف من الآخر.

كيف يمكن أن يخرج العالم العربي والإسلامي من واقعه المتخلف؟

أولا: بإعادة صوغ الفكر العربي والإسلامي من خلال قراءة نقدية جديدة للتاريخ الإسلامي ودراسة و تاريخ تطور الفكر الفلسفي الغربي وكيف استطاعوا من خلال حروب قادها الفلاسفة والمفكرون التنويريون ضد فلسفة الكنيسة المركزية التي نادت بأن الفرد يجب أن يخضع لسلطة الكنيسة للوصول إلى تعاليم المسيح وهكذا فقدت الكنيسة سلطتها الروحية والإيمانية ndash; والتي من أجلها وجدت- واتجهت لدمج الدين الروحاني والإيماني إلى الدنيوي وبل وأصبحت أداة رخيصة بيد الملك من خلال جلب المنافع للسلطة السياسية التي تبسط سيطرتها من خلال الكنيسة على الناس، إذن فالحاجة أصبحت ملحّة لإسلام بروتستانتي على حد قول المفكر الإيراني هاشم آغاجاري الذي دعا إلى فهم الدين دون الرجوع لسلطة رجال الدين وشروحاتهم اللامتناهية وبذلك ليظل الناس خاضعين لسلطة الكهنوت الديني الإسلامي.

ولا يمكن مواجهة السلطة الدينية إلا من خلال نقد الفكر الديني المتخلف وتجديده ومحاولة فهم الواقع بأدوات العقل البشري الذي استطاع إخضاع الطبيعة، والابتعاد عن فكرة الفرقة الناجية وإلغاء الآخر التي جرت علينا الويلات والنكبات التي تظهر علينا في هذا العصر من تصارع وتطاحن تضيع فيه أبسط المعاني الإنسانية الخيّرة.

ثانيا: ضرورة تبني الفكر الليبرالي الذي يعتمد في أساسه على حق اختيار الفرد الحر لأي فكر كان و احترام حريته وحقوقه بعيدا عن الإيديولوجيات القومية والدينية المغلقة والتي ساهمت بشكل كبير في إلغاء الآخر وحرمانه من حقه في الاعتقاد وممارسة حريته ضمن الإطار القانوني للدولة. والفكر الليبرالي هو النظام الوحيد الذي يضمن حقوق الأقلية العرقية والدينية ويكفل الحريات العقائدية والفكرية لأبناء الوطن الواحد وعدم فرض أي أيدلوجية على الآخرين، وبذلك نجح بامتياز في إثبات جدارته في تطوير ذاته بذاته حسب الضرورة التي يفرضها الواقع المتغير على النقيض من الفكر الديني الذي يخشى التطور والاندماج والانخراط في النظام العالمي الجديد خوفا علىأوهام الأصالة والهوية العربية والإسلامية والتغريب الثقافي للفكر العربي، وهذا الخوف نابع من التبعية التي قد تؤدي بنظرهم إلى ضياع القيم الدينية والأخلاقية.

ولكن التشويه المتعمد والمستمر من أحزاب الإسلام السياسي والقوميين وأصحاب الشعارات والخطابات الملتهبة والذين يعتقدون بحقهم في الوصاية على الآخرين ولحفظ أخلاق المجتمع، ودعوتهم بأن الليبرالية والعلمانية هي كفر محض ودعوة للتحلل الأخلاقي وبذلك يصبح الليبراليون والفكر الليبرالي كفرة ومرتدين!

ولكن سبب هذا الإدعاء هو خوفهم المستمر من التنامي المطرد للفكر العلماني الذي استطاع أن يجد الطريق لسبل التعايش بين الناس في الوطن الواحد على اختلاف مشاربهم ودياناتهم السماوية أو الوضعية، وأيضا لعجزهم عن إيجاد نمط أو تصور سياسي أو اقتصادي ديني وهم لا يملكون إلا بشعار العودة إلى المنبع الديني الأصيل وشعار ( الإسلام هو الحل ) ولا يقولون من هم أولئك الذين يمثلون هذا الدين وهم من عاشوا أربعة عشر قرنا في ظل وهم عودة الخلافة الإسلامية.

ولكن المشكلة التي يغفل عنها الكثيرون هو أن طوفان التغيير قادم لا محالة مهما حاولوا طمس أعينهم عن الحقيقة التي أمست جلية للعيان من خلال هذا التهافت من شتى أصقاع العالم للبحث عن السبل الكفيلة للعيش بسعادة وسلام وأمان وحرية، وإن الذين وقفوا أمام كوبرنيكوس وجاليليو ونيوتن واتهموهم بالكفر والزندقة لأنهم واجهوا النص الديني بالعقل لم يعلموا أنهم يقفون أمام أمواج التجديد والتغيير وأمام سلطة العقلالذي فسّر للعالم الظواهر الطبيعة بأدوات العلم الحديث و التي كانت يوما من الأيام ظواهر غيبية.

أخيرا إن الأحداث الأليمة التي يمر بها الوطن العربي والإسلامي من حمام دم يتفجر يوميا يتطلب منا إيقاف اللطم والندب والعويل والوقوف معا لكبح جماح هذا المد التكفيري والذي يقوده مجموعة من المرضى والمهوسين بالقتل والدمار باسم الدين، وهو لازال يمتد كالسرطان في جسد هذا العالم الجميل الإيمان الحقيقي بضرورة التعايش مع الآخرين واحترامهم باختلاف أطيافهم وأديانهم، وأن يعلموا أن التنوع والاختلاف ظاهرة كونية تملي علينا أن نتكامل مع الشعوب ضمن المصالح المشتركة والحياة الرغيدة.

طالب المولي

كاتب كويتي

[email protected]