السياسة علم وفنّ .. لكن في لبنان، وفي هذه المرحلة بالذات، أصبحت السياسة جهل وتجهيل وقرف وتقريف .. ورمز انحطاط. والمتابع لتصريحات رئيس الحزب التقدّمي الإشتراكي وليد جنبلاط يجد نفسه في دوّامة لا تُطاق، بل في دائرة داخل دائرة داخل دائرة.
ولا نتجنّى عليه إذا قلنا أنّه نموذج مثالي للشخص الذي لا يُقيم حرمة لما يقوله هو ذاته اليوم، فيمحوه غداً، أو ما يقوله في الليل، فيمحوه النهار، أو ما يقوله الآن، فيمحوه بعد ساعة أو أقل.
وحقّاً لا يملك المرء إلاّ أن يرثي لحال قادة وكوادر وأعضاء الحزب التقدّمي الإشتراكي، كما لحال الكثر من بني معروف الذين يعتبرونه مرجعيّتهم السياسيّة، وخاصّةً في هذا الظرف الدقيق أيضاً الذي يمرّ به لبنان منذ استصدار القرار 1559 الذي بدوره أنتج اغتيال الحريري ومجموعة الإغتيالات الأخرى حتى جبران التويني مروراً بسمير قصير وجورج حاوي وآخرين، ويضع لبنان على حافّة حرب أهليّة أخرى مدمِّرة كسابقتها التي استمرّت أكثر من 15 عاماً، وأودتْ بحياة أكثر من مائتي ألف قتيل.
ومبعث الرثاء هو اضطرار أنصار وليد جنبلاط إلى اللحاق بتقلّبات مناخات وليد جنبلاط، فإذا الأخير قال أنّ أميركا أساس بلاء العراق، قالوا: أميركا أساس بلاء العراق، وهذا حقّ. وإذا قال أنّ أميركا أساس خلاص العراق، وهذا عين الباطل، وقعوا في حيص بيص ... إلى آخر المعزوفة التي لا تنتهي نشازاً في هذا الليل الطويل.
وإذا سُئل وليد جنبلاط أين ذهبتْ مئات ملايين الدولارات المخصّصة لمهجّري الجبل أجاب بما يُذهِل، وإذا سأله مارسيل غانم في آخر لقاء ضمن برنامج كلام الناس عن المهجّرين أنفسهم أجاب: quot;بصراحة ... الدروز لا يريدونهم ... مثقّفو الدروز لا يريدونهم!quot;. ولا يُعقِّب الإعلامي الباحث عن الحقيقة بأي سؤال آخر حول هذا الموضوع، ليستعجل إلى المشاجب، فيكرِّر الأسئلة حول مزارع شبعا: quot;أهي لبنانيّةquot;؟!، وحول المقاومة: quot;أسلاحها شرعيquot;؟!، وحول سوريا: quot;ماذا عن ترسيم الحدودquot;؟! ... ولا سؤال واحد حول معنى أنّ الدروز ومثقّفي الدروز quot;لا يريدونهمquot;!. وطبعاً إذا فرغت جعبة امرء هرع إلى دفاتر جدّه العتيقة. وفي الدفاتر العتيقة أنّ النظام السوري قد اغتال الشهيد الراحل كمال جنبلاط، وهذا حقّ، ولكن ما ليس حقّاً أن يُتاجَر بدم الشهيد المعلِّم كمال جنبلاط، كما يُتاجَر اليوم بدم الرئيس الشهيد رفيق الحريري. ما ليس حقّ أن يكون كلام حق فيراد به باطلاً، ما ليس حقّ هذا التلاعب بدماء الشهداء لتحقيق مآرب ... فمن يبحث عن قتلة الحريري صحا اليوم، وصار يبحث بعد مضي أكثر من 28 سنة عن دمّ جنبلاط الأب، وصار يبحث في ترسيم الحدود، وفي تبادل السفارات، وفي تجريد المقاومة من سلاحها، وفي تثبيت الهدنة مع إسرائيل، (ومتى احترمت إسرائيل إتّفاقيّة الهدنة مع لبنان؟)، وصار يبحث في موضوع رئاسة الجمهوريّة، وصار يبحث في مزارع شبعا ... ممنوع البحث في الفساد، ممنوع البحث في أسباب نهب اللبنانيين ... ممنوع البحث بالقرض الذي بلغ كما يُكرَّر quot;أربعين بليون دولارquot;، ممنوع البحث في الإقتصاد الذي تدهور منذ quot;ثورة الأرزquot; حتى بلغ صفر بالمائة بعدما وصل إلى خمسة بالمائة، وهي من أعلى درجات النموّ الإقتصادي في العالم، ممنوع البحث في لقمة عيش المواطنين واندفاعاتهم إلى الهجرة المتواصلة بسبب رعونة السياسيين العشائريين أو الطائفيين أو القطريين أو المناطقيين.
قال وليد جنبلاط أنّه في 14 آذار سيكون رئيس الجمهوريّة إميل لحّود قد طار! هكذا بفرمان عثماني بائس، فمن يحاكمه على فرمانه هذا؟ أقلّه مَنْ يؤنِّبه؟. ماذا يقول وليد جنبلاط بشاهده الملك محمّد زهير الصدّيق الكذّاب؟ ماذا يقول وليد جنبلاط بشاهده الملك الكذّاب الآخر هسام هسام؟ ماذا يقول وليد جنبلاط بمندوب الأمم المتّحدة الأوّل فيتزجيرالد ثمّ الثاني ميليس الحريص على توجيه التحيّات إلى إسرائيل في تعاونها على الكشف عن قتلة الحريري بعدما جاء الثالث quot;براميتسquot; ناقضاً حتى الآن كل ممارسات وتحقيقات سلفيه؟.
ووليد جنبلاط قبل ثلاثة أسابيع يحثّ أميركا على غزو سوريا quot;لتخليصنا من نظام بشّار الأسد كما خلّصتنا من نظام صدّام حسينquot;، الآن لا يريد وليد جنبلاط تدخّلاً أميركيّاً بل يريد ثورة من الداخل على غرار ثورة الرومانيين الذين quot;أطاحوا بتشاوتشيسكو وأعدموهquot;.
محزن هو أمر رئيس الحزب التقدّمي الإشتراكي وليد جنبلاط الذي نحترم حزبه وطائفته وإرث والده النضالي والفكري والثقافي والأدبي والإنساني.
فإذا لا يريد وليد جنبلاط إحترام عقول اللبنانيين فليحترم أقلّه عقول أبناء الطائفة الدرزيّة الكريمة في الوطن والمَهَاجر، فلا يُقال أنّهم أيضاً كغيرهم سكتوا فيما العقل يصرخ.

[email protected]