لا يمكن أن نستوعب السحاب القلق في سلة رمان، ولا يمكن ان نختصر مشاعية التفكير وتراكمات الثقافة في رغبة أو وصية أو شرح وافٍ. في بلادنا مازلت التجربة تأّن بصدئها وركودها وعفونتها لدى شرائح متعددة، تهيمن عليها نوازع اكبر من سموّ الأهداف لبناء وطن. إنها حكايتنا نحن أبناء ملتقى حضارات الأرض القديمة، همّشنا معرفتنا بتاريخنا البعيد في حصارنا وحصارها لنا ضمن دائرة مازالت تضجُّ في تناقضاتها اليومية والتاريخية، بدون حق لأي منا الإقتراب من مقدّساتها المعنوية أو الأرضية. إنها المرض لكنها ليست بالمرض الحقيقي، وأنهيار خلّبي للأعصاب من الأحباطات المتتالية، فين نظرتنا إلى مستقبل مازال العديد يحلم به وكأن التجارب لم تكن، وكأن الواقع ملغي، نعود إلى السابق بدون لماذا، والحاضر، في صراع الديكة، وصغار يبحثون بين فتات هنا وهناك، وكأن الوطن لعبة للتسلية، وسوق للمارقين في كل زمن وكل عصر.
في هذه الوحشة الغريبة، وهذا الزمن المنحسر بعوامل خارجية، مازالت القضية في ثباتها ومسارها وخطابها، ومازال المشرفون على ثناياها يعالجون ماضيهم بحاضرهم، وحاضرهم بعقاب ماضيهم، وكأن الذاكرة لم يعد لها تجربة او تاريخ حياة، وكأن الرغبة مثقوبة أو أرملة تبحث عن عريسها الذي قتلته بإيديها بدون مراجعة لدى اصحاب الإختصاص.
إنه زمن حالك في عدم استيعاب الخطاب وحرثه بالأرض، ليولد زرعاً وحصاداً منصهراً مع رغبة حضارية في معانيها الإنسانية على مستوى الوطن. إنه زمن المتصارعين على أوهامٍ عرَّتهم في الماضي، وشرّدتهم في منافيهم في حسرة العيش الطيب والجذور المقطوعة على شواطئ أرضٍ جديدة ومناخ آخر. إنها عقدهم في تمنيات سرقها الزمن في لحظات تراكمه البعيدة عن كل شئ.
هؤلاء الذين يدّعون الديموقراطية، مارسوا الإغتصاب سابقاً على كل ماهو مبدأ وحرية وديموقراطية، هم الذين شردوا الوطن من قيمه وتاريخه وتجربته، وهم الذين لا يعرفون أن القضية اعمق من اجتماع أو لقاء او تجمع للفئات المتصارعة quot;غريزةquot; أو quot;انانيةquot; أو سلطة اخرى في المنفى. إنهم يمارسون ديموقراطية الأرامل بدون أي وعي لمعنى الكلمة وثمنها وقيمتها. إنهم يدّعون كما فعل غيرهم منذ اكثر من نصف قرن، بنفس اللغة والأساليب quot;المتعبةquot; من نفسها.
الوطن ليس لعبة، ومصير الشعوب لم يعد رهينة تختصر في عقل همجي وديكتاتوري متسلط. هل يتوجب أن نعيد الحكاية بفصولها ذاتها، بحثاً عن لوي الأذرعة، في نفاق المصالح الصغيرة. أم أنه واجب مقدّس على كل واعٍ وصاحب قيم حقيقية، ان ينادي ويصرخ بالحقيقة ملئ الفم بدون مواربة.
الوطن السوري ينادي الشرفاء، والشرفاء اصحاب الكلمة المنصهرة بالأداء من اجل بناء ديموقراطية العدل والكرامة والإنسان. الوطن السوري quot;يناديكم ويشدُّ على اياديكمquot; يا أصحاب الكلمة الحرّة الأبية، التي لا تباع ولا تشترى. هل يعقل ان نساعد ونمهد سبيل الإنتهازية وضعفاء النفس والروح والسلوك، هل يعقل ان نمدّ مصداقيتنا على سجادة اصفهانية لكي يعبر هؤلاء المتشردين الحالمين على اكتافنا إلى قمة الخطاب المنافق والمزيف بإسم ديموقراطية الأرامل.
في مخاض عسير جدّاً، وفي تجربة تتعثر خطاها يومياً، وفي تردد مازال يشوبه الخوف من ظل نظام الأمن والأستبداد، يحاول بعض المتسلقين على ظهور الزمن، إقناعنا ان الحق في ايديهم سلاح الحرية، وأن الخطاب المدّوي بصداه في رمال الصحارى، مطرقة تهوي على الظلم وكبت الحريات. في مخاض عسير غير متكافئ مع ارضه وحجم قضيته، ورغبة شعبه الأسير في ظلمات الحلم والذكريات القادمة. واجب على كل مؤمن بحل نهائي للوطن السوري ان يعبّر عن الحقيقة بدون مواربة او مسايرة او تعاطف او خوف او خصام. الوطن السوري يحتاج إلى ديموقراطية حقيقية مبنية على اهداف واضحة كالشمس، لا تموت في تفاعلها مع الواقع والإنسان. ولا تنتهي في ادراج هؤلاء الذين اعتادوا على نمط معين من ثقافة الفراغ الكبير بين الخطاب والسلوك. إنه الوطن الذي يتغنون به تجارة، ورغبة فردية منمقة، وتكتيكاً نمطياً اكثر من معقد. إنه الوطن وليس مصالح الغرباء واصحاب الجيوب الفارغة مدعي الوطنية.
هل اصبح الوطن السوري يتيماً من من اصحاب النخوة والشهامة ومعاني الوفاء والتضحية، هل يحتاج المواطن المنهك من آثار السنوات الجدباء إلى مغامرين جدد، يحرثون العقول والمشاعر في رغبة لعودة إلى واقع مضني ومتاهات زمنية قادمة لا تغيّر من حاضرها إلا ستائرها.
الديموقراطية سلوك واداء وقناعة ومقدّس حضاري يكرّس للإنسان العادي، المواطن السوري، حقه الأسمى في عيش كريم، بسيادة قانون، ومصداقية السياسي، وشفافية النظام والحكومة. لن يقبل التاريخ ان تُدَكَّ الأرض العطرة بمسامير جديدة، لن يقبل مستقبل الأطفال ان يهدر شبابهم عبر سلوك عجائزهم أرامل الزمن المنسي في ديموقراطية مزيفة.
أعلنوا عن ديموقراطيتكم صراحة، ثم مارسوها، اعلنوا عن مبادئ حقوق الإنسان لكل الشعب السوري، تحدّثوا عن المساواة صراحة وعلانية. لن تأتي الديموقراطية والحرية وحق الإنسان والوطن الشريف على أياد ملوثة بغريزة لا تعرف من معنى الكلمة إلا مصالحها الأنية ولو على حساب الأخيرين. ما أصعب ان نسقط في بحر خيالنا المنافق على انفسنا، كل يوم، في غربة مجترّة بعيدة عن بيئتها وحقيقة معايير قبولها لنا.
د. فاضل فضة
التعليقات