(4-4)

إن السلطة السياسية كانت مفتاحاً للسيطرة على الثروة الاجتماعية في العراق، وقد كان محور الصراع الحقيقي يختبيء خلف مظاهر الطائفية، إذ كان ثمة فلاحين معدمين وأفراد شرطة وحراس ليليين وفراشي مدارس تسلقوا مراتب الهرم الاجتماعي برعاية أحمد حسن البكر، وبعده صدام حسين ليصبحوا شيوخاً وملاكين كبار ومدراء عامين ووزراء، لكن الفرق أن هؤلاء جاءوا من تكريت أو الدور وكانت السلطة السياسية، وبالنتيجة الدولة وثرواتها في يد أقاربهم()!.
بالمقابل فقد اضطر الفلاحين الشيعة الذين هاجروا من الجنوب بغية أن يسّدوا رمقهم، ولعدم حصولهم على أي تعليم أو تأهيل، للعمل في ابسط المهن وأشدها إرهاقاً، وأحياناً في أكثرها انحطاطاً، فكانوا عمال بناء وكناسين ومنظفي مجاري وفراشي مدارس ومستشفيات وعملت نسائهم في مثل ذلك وفي خدمة البيوت. أو اضطرار غالبية أبناء هذه الطائفة من الفقراء، أن يتطوعوا للعمل في كأفراد في الشرطة أو جنود وعرفاء في الجيش، فكونوا جل القاعدة الأساسية لمراتب الجيش والشرطة. وستظهر بعض نتائج ذلك واضحة خلال العقود اللاحقة().
من الواضح تماماً، أن الشيعة يمثلون أكبر مجموعة عرقية مذهبية في العراق، ثم أتضح أنهم يمثلون حوالي (54 %) من السكان وفقاً لإحصاء عام 1947. لكن نسبتهم من المقاعد الوزارية لم تتعد خلال العهد الملكي (27.7 %). ولم يعيّن شيعي واحد رئيساً للوزارة خلال (27) عاماً بعد إنشاء الدولة الحديثة في العراق، إلى أن عين صالح جبر في العام (1947-1948) وتلاه محمد الصدر (1948) وفاضل الجمالي (1954) وعبد الوهاب مرجان (1958): أي (5) تعيينات من أصل (58) حكومة تعاقبت على الدولة في الحكم الملكي(). وتصبح المسالة حادة حين يتضح أن هناك رغبة في إقصاء الشيعة عن السلطة، لأنهم شيعة.
غير أنه في ظل الحكم الجمهوري للدولة في العراق منذ عام 1958، أصبح إقصاء المحكومين عن الحكم هو شأن عام: فالأكراد مقصيّون وفئات من السنة كذلك، ناهيك عن الشيعة. لكن ومنذ عام 1968 لجأ نظام البعث الدكتاتوري إلى أكبر حملة تطهير (طائفي/سياسي) ضد الشيعة، فيما كان يسمى الحملة على (حزب الدعوة) في نهاية السبعينات وبداية عقد الثمانينات، فحصدت أرواح الشباب المتدين، مما حدا بالشيعة إلى تعطيل طقوسهم وشعائرهم العلنية، كما هو حال صلاة الجماعة في ما لا يقل عن (90 %) من الجوامع والمساجد والحسينيات الشيعية في مختلف مدن وقرى وقصبات العراق، وشملت الحملة أعمال مطاردة وطرد من الوظائف وتهجير بحجة التبعية الإيرانية وكان هذا أخف من حملات الإعدامات واغتصاب زوجات وأخوات وأمهات المناضلين والمطلوبين لحملهم على تسليم أنفسهم أو تقديم اعترافات باطلة بتهم الخيانة والتجسس وغيرها. وقد قتل في هذه الحملة كم كبير من رموزهم الدينية، كما هو الحال مع آية الله السيد محمد باقر الصدر وأخته بنت الهدى. كل ذلك تم بلا بادرة واحدة على استهجان المؤسسة الدينية الرسمية أو الشعبية السنية لما يجري، والمعنى المبطن كان الرضا عما يفعله النظام السياسي. وحين اندلعت الحرب العراقية ضد إيران كانت المؤسسة الدينية تجاهر بدعم الدكتاتور ونظام البعث، لا على أسس وطنية أو مصلحية بل على أساس (أن أعدائنا هم الفرس المجوس) وغير المعلن هو أنهم (شيعة). ولوحق كل من كان يلتزم بتعاليم الدين من الشيعة بتهمة (الخمينية) (). كما أن كل شعارات النظام السابق في الحرب ولمدة سنتين تقريباً، كانت تحارب نيابة عن الأمة العربية (السنية) العدو الفارسي المجوسي (الشيعي)، وكان الخطاب الديني في المساجد وحلقات الدرس والتوجيه الرسمي والشعبي يدل على اقتناع تام بسلامة موقف صدام الشرعي في هذه الحرب().
ومن الغريب أن نرى أن موقف المراجع الشيعة ورجال الدين من غزو صدام للكويت مناقض لموقف المؤسسة السنية من غزو إيران، فنرى أن المراجع الشيعة حرَّموا التعامل بالمواد المسروقة والمنهوبة من الكويت حتى لو كانت مملوكة للدولة الكويتية. فلم يجوز المراجع الشيعة حتى الصلاة للعراقيين على أرض الكويت باعتبارها أرضاً مغصوبة !!.
ولما جاءت انتفاضة مارس (آذار) عام 1991 الكبرى في الجنوب والوسط، ساند الأكراد العراقيون هذه الانتفاضة في الشمال تضامناً مع إخوتهم العراقيين الشيعة في الجنوب، بينما صمتت معظم المحافظات الغربية (البيضاء كما دعتها سلطات النظام الدكتاتوري) على الدمار الشامل الذي جلبه صدام على العراق باحتلاله لدولة جارة مسلمة عربية (الكويت).
كان ما سبق عرضاً للجانب التاريخي السياسي، أما على المستوى الاجتماعي، فإن الشيعة كان يطلق عليهم في بغداد ومحافظات غرب بغداد اسم (الشروكية) أو (الشراكوة) أو (الشروك) كما عرفوا لدى (البغادة). إن اسم (الشروكية) ذي دلالة مكانية، أولاً، باعتبار نزوحهم من الجزء الجنوبي الشرقي للبلاد، بمقابل أبناء المحافظات الغربية (الواجهة الغربية). لكن هذا المصطلح اكتسب لاحقاً دلالة اجتماعية معينة، وأصبح في عرف الفئات الحاكمة والمتسلطة (السنة من بغداد وأبناء الواجهة الغربية تحديداً) مفردة تشير إلى الدونية والانحطاط والهامشية. فـ (الشروكي) ليست صفة اجتماعية نمطية، أطلقت على النازحين من مدن الجنوب إلى العاصمة، ليتم من خلالها توصيف هذه الجماعة الواسعة. وإنما هو مصطلح لا يخلو من نزعة تمييزية، فهو أنموذج لاضطهاد الثقافة الاجتماعية، الموجه ضد المهاجرين الشيعة المنحدرين من الجنوب، والتي أفرزتها وعززتها الحكومات السنية المتعاقبة على حكم العراق.
كما إن النظام الدكتاتوري السابق تعمد إظهار الشيعة من أبناء المجتمع في العراق، في وسائل الإعلام العراقية (إذاعة وتلفزيون) على أنهم متخلفون. فاللهجة (الشروكية) يتواجد فيها التخلف والغباء والهمجية، أما إذا تغير الموقف إلى موقع متحضر، فإن اللهجة تتغير تماماً إلى واحدة أخرى (مستوردة)، وحتى أن كثير من الكتاب أبناء هذه المناطق (الجنوبية والوسطى) قاموا بكتابة مسلسلات وتمثيليات تلفزيونية وإذاعية، تشير إلى تخلف أبناء مناطقهم، متماهين بذلك مع جلاديهم (ممَنْ ينتهك حقوقهم وحقوق إخوانهم)، ضد إخوانهم().
بناءً عليه، فقد ظهر تقسيم جديد للإنسان العراقي، فهو أما مثقف واعي حضاري أو شروكي متخلف، ويمكن لأي شخص كشف الشخص المثقف عن المتخلف من خلال اللهجة، فإذا كانت (شروكية) فصاحبها بلا شك هو إنسان متخلف(). لذلك أصبح من يحصل على شهادة جامعية أو يصبح مديراً لمكان ما، وكان من أصل (شروكي) يغير في العادة من لهجته()، ليتماهى مع لهجة (البغادة) أو مع لهجة منطقة النظام الحاكم، حتى لا يُظن به ظن السوء. فشاعت كلمات مثل (يَوَلّ) و(عَجَل) و(بالنَفِس) وغيرها من كلمات مناطق أو قرى رجال الحكم السنة في العراق. هنالك إذن طائفية واضحة، لكن لا يتم الجهر بـها غالباً.

في الطائفية السياسية والاجتماعية 3-4

د. علي وتوت
باحث في سوسيولوجيا السياسة
[email protected]