الحقيقة والدين.. ردا على مقال د. كامل النجار ( في طبيعة الأديان)
لا أعتقد أن الفهم الموضوعي لما طرحه د. كامل النجار في مقاله المنشور بـ ( إيلاف ) في 24 يوليو 2006 سيكون متحققا لو اعتمدنا على سياق معرفي واحد في تأويله وذلك لأنني أرى أن هناك مستويات باطنية متدرجة العمق تعمل على تطوير أبعاد الفكرة الأصلية وهي ( طبيعة الأديان ).. لكن من الطبيعي جدا بل من البديهي حقا أن يتم تأويل هذا الطرح من خلال سياق معرفي واحد وذلك يرجع ببساطة متناهية لأنه يتناول ( الدين ) بالذهنية النقدية الضدية الرافضة الواضحة والمباشرة حد الصدم وليست هناك حاجة لاستنتاج ما يمكن أن يكون نتيجة ذلك لدى ( أبناء الدين المخلصين ).
حسنا.. لنبدأ بالفكرة الأصلية لدى د. كامل النجار ثم تطويراتها للوصول إلى دلالتها المفترضة hellip;
حينما يستخدم كلمة ( طبيعة ) كمدخل إرشادي للسياق النقدي الذي يتناول من خلاله الأديان فهذا بالضرورة يدفعنا لاستنتاج كافة المعاني والدلالات الممكنة لكلمة ( طبيعة ) في هذا السياق.. من الواضح أن ( الطبيعة ) هنا هي الوجود الثابت السابق الحدوث والمتحكم الأزلي والخالد.. الغريزة الدائمة المتحققة باستمرار داخل المكّون الإنساني المكلفة بتنفيذ وتحقيق حالة حتمية معينة.. الطبيعة هي المعادل المعرفي للقانون بكل ما يمكن أن يمنحه من إلزامات وفروض إجبارية.. الطبيعة هنا هي ذلك الشيء الجوهري الباطني القائم بداخلك الذي يسيطر على أفكارك ومشاعرك ويتحكم في أفعالك وردود أفعالك.. لكن.. حينما يقترن كل هذا بالأديان.. ماهي المظاهر / الأداءات النسقية المعروفة والتقليدية التي ستنشأ عن ذلك ؟.. هذا ماجاء في بداية مقال د. كامل النجار حين كتب : ( يزعم رجالات كل دين أن دينهم دينٌ حقيقي من عند الإله الواحد في السماء، وهو الدين الحق وما عداه باطل. ويزعم كل أهل دين كذلك أن إلههم إله رحيم غفور كريم. )
ليس بيني وبين هذه الفقرة أي خلاف بل على العكس أنا في تصوري أنها لا تحتاج للنقاش ولكن خطيئة د. كامل النجار هنا ـ إن كانت خطيئة حقا ـ أنه يتحرك بمثل هذه الصراحة والوضوح ضد غريزة.. غريزة محسومة مثل سائر الغرائز المعروفة التي تتحكم في حياة الإنسان وتخضعه لها.. مثل الطعام والشراب والجنس والنوم والتبول والتبرز.. أشياء من غير المنطقي التفكير فيها أصلا.. تحدث بتلقائية وعفوية وبساطة وروتينية، وبدونها ليست هناك حياة.. ليس هناك إنسان.. كذلك الدين.. لابد أن يكون هناك إله نؤمن به ولابد أن يكون هناك دين نعتنقه ولابد.. ولابد.. وليس من المنطقي التفكير في ذلك أصلا.. إنها تلقائية وعفوية وبساطة وروتينية الغريزة أيضا مهما كانت مظاهرها وتجلياتها المختلفة.
أظن أنه يمكن الآن العمل على محاولة التعرف على تطويرات الفكرة الأصلية للمقال والتي ترتبط بنتائج كون ( الدين ) طبيعة.. أي ماترتب على كافة الحتميات الغريزية للإيمان وهذا ما ركز عليه د. كامل النجار حين كتب ( عندما تصدر الفتاوى أو الأقوال أو الأفعال من رجال قضوا كل حياتهم منذ أيام طفولتهم في تعلّم ذلك الدين من المشايخ أو الحاخامات أو الأساقفة الذين درسوا أصول ذلك الدين في المعاهد الدينية مثل الأزهر، والمدارس الكنسية اليهودية أو المسيحية، كيف يجوز عقلاً أن نقول إنهم أخطؤوا فهم ذلك الدين؟ وإذا صدر بيان أو فتوى من عدد كبير من رجالات دينٍ بعينه، هل يُعقل أن يكونوا قد أخطؤوا فهم ذلك الدين؟ )
التساؤل هنا يحمل الإجابة بالطبع.. فمن الواضح أن كاتب المقال يسعى للتوصل إلى أصل المشكلة ( الدين ) أم ( الرجال ) ؟!!.. على أنه بالفعل تبدو المسألة محسومة بأن ( طبيعة الدين ) لم توفر الحماية من سوء الفهم و الخطأ والاستغلال.. لم توفر الحماية من الصراع بل بالعكس كانت سببا مباشرا وأساسيا وحقيقيا له.. طبيعة الدين.. لماذا ؟!.. هذا تطوير آخر للفكرة.. لماذا طبيعة الدين هكذا ؟!.. غير حاسمة.. غير منقذة من حدوث الشر.. لماذا طبيعة الدين تتسق تمام الاتساق مع كافة الموجودات الكونية الناقصة التي لاتصلح للخلاص أو النجاة بل تعمل بتزايد مستمر على تفاقم أزمة الوجود في العالم ؟!.. و ( أبناء الدين المخلصين ) الذين لا يمكنهم ـ غريزيا رغما عنهم وليس باختيارهم كما يتوهمون ـ تحمل مجرد التفكير في كون طبيعة الدين هكذا ويلقون بكافة الآثام والرذائل والمصائب والشرور على الإنسان المخطيء دائما الذي لابد له أن يتحمل مسؤلية فساد علاقته بالدين.. هؤلاء بالطبع لن يفكروا أو لن يتذكروا بشكل أدق أنه مثلما للأديان طبيعة فإن للإنسان طبيعة موازية.. هذه الطبيعة تحمل نفس الخصائص الغريزية الموجودة الثابتة السابقة الحدوث المتحكمة الأزلية والخالدة المكلفة بتنفيذ وتحقيق حالة حتمية معينة.. المعادل المعرفي للقانون بكل ما يمكن أن يمنحه من إلزامات وفروض إجبارية.. الشيء الجوهري الباطني القائم بداخلك الذي يسيطر على أفكارك ومشاعرك ويتحكم في أفعالك وردود أفعالك.. وهذا لم يصنعه الإنسان وإنما خلق به كسائر الأعضاء الجسدية والغرائز فكيف يمكن توجيه الإتهام له دون اتهام طبيعته الإجبارية ؟!!!.. وكيف نظل نطالب الإنسان منذ بداية الكون وحتى نهايته بمقاومة وتحدي وهزم طبيعة لم يشكلها بنفسه والنجاح في اختبار شرس وقاس لم يخير في دخوله ؟!.
بالطبع الفكرة تحتمل أكثر من تطوير ولكن من وجهة نظري أنه كان بالمقال ما عمل كعوائق أحيانا لحدوث هذا التطوير مثل التركيز المبالغ فيه والمتكرر على فساد رجال الدين وزعماء الطوائف الدينية عبر التاريخ.. في رأيي كان هذا تسطيحا للفكرة أكثر منه خدمة لها حيث تحول الأمر إلى مايشبه الانتقام أو الرغبة في حل عقد نفسية مرتبطة بالسلوك التبشيري والعقائدي والطقوس البدائية الغريزية أو الممارسات الاستغلالية لدى ( المشتغلين بالدين ).. في رأيي أن الاسهاب والاستطراد في تناول هذه الأمور كان يسحب الفكرة لمنطقة ( الجاني والمجني عليه ) التقليدية الهشة في حين أن مناقشة طبيعة الأديان تتطلب تساؤلات أعمق تتجاوز التركيز المستميت على أهمية الأعضاء التناسلية لدى زعماء الطوائف الدينية أو إدخال شعائر جديدة على أديانهم ليوهموا الجهلاء أن عقيدتهم تحمل جديدا أو عدد زوجات الأنبياء وزواجهم من القاصرات أو ضرب الشيعة لأنفسهم بالسلاسل حتى تسيل الدماء من أجسادهم أو قراءة الجنود اليهود للتوراة وهم يهتزون حول دباباتهم وما إلى ذلك من الأمور المعروفة التي وان اتفقت مع كاتب المقال بالفعل أنها تنتمي إلى ( العقل الغريزي ) إلا أن كل هذه الأشياء تصلح كمداخل لما هو أعمق كمحاولة التساؤل أو التوصل للغاية المراد بلوغها كونيا من وراء ذلك.. عن أسباب حدوث الأمور بكل هذه الحتمية والاتساق بما يبدو وكأنها تنفذ مشروعا ما.. عن محاولة التوصل إلى خبرة مختلفة لإخفاقات وهزائم الإنسان وعلاقته بالعالم كما تتم بشروط الدين.
ممدوح رزق
[email protected]
التعليقات