قبيل عودة الرفيق والصديق فاتح جاموس إلى سوريا بعد زيارة إلى باريس ثم اعتقاله في دمشق من قبل الأمن السوري حيث لازال رهين سجن عدرا مع أبشع أنواع التنكيل : كان يردد دوما في جلسات حوارنا المطولة مايلي : العامل الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط هو عامل استقطاب خطير ويهدد المجتمعات في وحدتها وصميمها ويشظي البنى المجتمعة ويجهزها لحروب أهلية من أنواع شتى. لأنه لا يمكن أن يكون عامل استقطاب خارج بنى هذه المجتمعات العربية والإسلامية المتخلفة.


مرة أخرى وربما لن نعود قادرين مطلقا على أن نغفل وجود هذا العامل الأمريكي في صياغة مستقبل منطقة الشرق الأوسط وتاليا صياغة مستقبل العالم وحضارته التي لازالت منكوبة بالدم والنفط والأحجيات الرسالية من دينية وليبرالية وديمقراطية وحقوق إنسانية..الخ مرة أخرى نجد أننا وبعد المذابح والجريمة في لبنان نفتح ملف هذا العامل الاستقطابي وخصوصا أننا نجد دوما من يتناول هذا العامل من منطلقات متباينة، لكنها في غالبيتها لاتصب في مصلحة العملية السياسية التي من شأنها تحرير شعوبنا من نهبها وقمعها وغفوتها في آتون تواطؤ بين سلطات نهابة وبين ثقافة لا عقلانية على كافة الصعد وتشجعها هذه السلطات في كل لحظة وعبر وسائل إعلامها. والأنكى من كل هذا في الحقيقة هو التناقضات العميقة بالمعنى السياسي في أذهان الشرق أوسطي عموما والعربي بشكل خاص حول الدور الأمريكي والمشروع الغربي بما هو مشروع كوني بامتياز واجهته الآن هي الأمركة الأنغلوساكسونية بنسختها الرامسفلدية برميل النفط واحتقار الثقافات الأخرى ويضاف إليها سجونا سرية ورقابة كونية وتصدير سلاح..الخ


نعود للقول عن استقطابية الوجه الأمريكي للمشروع الغربي هي استقطابية موضوعية بالدرجة الأولى لم تعد العلاقات الدولية والحضارية تحتمل وجود هذه الكذبة الكبرى من تعايش حضارات وما ينبثق عنها من شعارات طالما تغنينا بها حول ما سمي بحوار الحضارات بلغة أنثروبولوجية فيها طية عنصرية في ثنايا خطابها أو بلغة اليونيسكو حوار الثقافات، من باب البداهة أن نسأل نحن سكان الشرق الأوسط والمسلمين تحديدا : ما هي الثقافة التي نريد من خلالها حوار العالم والتحاور مع العالم ؟ هل هي الثقافة الإسلامية مع احترامنا الكامل لهذا الثقافة المنتجة منذ خمسة عشر قرنا ودون أن يتم تجديدها لتواكب تطور البشرية ولازال علمائنا يختلفون في فتاويهم حول أبسط الأشياء !؟ أم هي ثقافة الغرب المناهض لأمريكا والذي يتبنى ثقافته كل التيارت القومية وغير الإسلامية ؟! ما الذي هو من عندياتنا وقادرين على الحوار مع العالم به ثقافيا وحضاريا خارج إطار ما أنتجه المشروع الإسلامي منذ بداياته وحتى تاريخ انحطاطه في العهد ما بعد العباسي ؟


ولكوننا نعارض المشاريع الأمريكية من خارج هذه الثقافة الإسلامية ـ كناشطين مدنيين ومثقفي معارضة ونشطاء حقوق إنسان..الخ فنحن نعارضها بخطاب هو من انتاج المشروع الغربي نفسه وهذا ما يوقعنا في أسر تناقضات كثيرة لابراء منها مطلقا..فكيف لنا ألا نرى العالم بما هو حركية واحدة بعد كل الذي يجري فيه من ترابطات وتوضح بنية عالمية واحدة، وسيطرة الأنفورماتيك الذي ليس له أية جنسية من أي قومية كانت والسوق العالمية مفتوحة لشتى أنواع المنافسات الشريف منها وغير الشريف القانوني منها وغير القانوني. إنها البنية الواحدة والوحيدة بعد زمن يقرب أو يبعد وهذا متروك لمجموعة من العوامل الموضوعية والذاتية، البنية الواحدة لاتحتمل خطابات متناقضة تناقضا لاحل له مطلقا ويكاد يكون مستحيلا بين ثقافة لم تخرج خارج المشروع الديني وبين ثقافة وضعية تجاوزت كل المشاريع الدينية ولو أن الدولة العبرية لها وضع خاص يجري تجاوزه حاليا لقلنا لم يعد هنالك مجتمعات دينية خارج بعض المجتمعات الإسلامية في العالم كله فكل المجتمعات ذا صبغة علمانية وقانونية ومدنية..الخ
ومشاريعنا بما هي مشاريع منتجة بتلفيقة سياسية واضحة دوما توصلنا إلى طريق مسدود فلا يمكن انتاج أيديولوجيات وضعية لتحقيق رسالات ذات بعد ديني / التيار العروبي / سواء في الوعي أو في اللاوعي. وإن كان له خصوبة معرفية بفعل ضحالة الواقع المعرفي والعلمي العربي ولكنه في النهاية يصطدم في السياسية العالمية والتي هي على طول الخط محصلة موازين قوى يجب أن يتم التعامل معها في العقل وبالعقل. هذا في الواقع ما يجعل الشارع العربي عند أية هزة مثل الهزة الأخيرة التي يحقق فيها حزب الله انتصارات معينة ومحددة وفي معركة تبدو أنها مصيرية أو باتت مصيرية في ذهن الشارع وهي من [ ستشيل الزير من البير ] ولهذا نجد مثقفنا من جديد يعود ليسند ظهره لهذا الشارع ذو الثقافة اللاعقلانية على العموم رغم كل الدم الذي يمكن أن يقدمه هذا الشارع. هذا المزاج الذي بغالبه تربى على معاداة أمريكا من جراء سلوكها في الصراع العربي الإسرائيلي، وينفخ في هذا الحس المثقف السلطوي العربي والمثقف القومجي لأنه بات على مسافة واحدة من عملية التغيير مثله مثل النظم المستبدة بوعي واضح ـ بعض مثقفي المؤتمر القومي العربي ـ أو بدون وعي تماما كالمزاج الشعبي الذي لازال قسما كبيرا منه يعتبر مثلا النظام السوري نظاما ذو مسحة بطولية بالمعنى القومجي للكلمة وهذا أيضا يتطلب الشحن المطلق وليس النسبي في طرق التعاطي السياسي مع الأوضاع الدولية المتغيرة ومنها السياسية الأمريكية، ويمكن إضافة سبب هنا ربما يبدو ثانويا ولكنه غاية في الأهمية وهو : أن التغيير الديمقراطي لا يكنس الديكتاتوريات فقط بل لايبقي مرموزيات سياسية ورموز سياسية خارج عملية التأريض ونزع أية مسحة من القداسة التي يرغب فيها المثقف أو السياسي القومي الكارزماتي..وهذا ما لا يريده المثقف هذا بوعي منه أم بدونه فهو رمز قبل أي فعل سياسي خلاق وليس موقفا من المفترض أنه ذو بعد معرفي وقيمي وعقلاني وعلى مسافة من ثقافة الشارع التي هي فضاء مولد من بؤر ما قبل مدنية وسلطوية في الآن معا. أليس هذا المنطق القومي هو منطق استقطابي كالذي يناهضه ـ وهو هنا السياسة الأمريكية ؟


نحن في أوقات الراحة نميز بين موقف هذه الإدارة الأمريكية أو تلك، وهذا الرئيس أوذاك، ثم في أوقات أخرى نشدد على أن من يحكم أمريكا هم مجموعة من اللوبيات اليهودية، وفي رواية أخرى الآن هي السائدة لأن الشيخ حسن نصرالله قد سطرها في أول كلمة له بعد الحرب الدائرة في أرض لبنان الآن حيث قال : ان إسرائيل مجرد أداة في يد السياسة الأمريكية. ومثال آخر :
الآن قام السفير السوري بمقابلة مع صحيفة يديعوت أحرنوت الإسرائيلية وتحدث فيها حديثا مطولا ينم عن طريقة في التفكير التكتيكي بائسة جدا ومع ذلك لم نجد أحد توقف عند هذه المقابلة وسأل : لماذا جرت وفي هذا الوقت بالذات ؟ مثال آخر :
نقف مع إيران ومن المعروف أن من أخطر أنواع الاستعمار هو الاستعمار الديني في الحقيقة وهذا هو المخيف في المشروع الإيراني !!


نعم في لحظات محددة في تاريخ البشرية يجري دوما سلسلة من الاستقطابات الموضوعية والذاتية وسلسلة من التواطؤات السياسية في المصالح بين فرقاء أعداء !! أليست قيام المعركة بين إيران والمجتمع الدولي على أرض لبنان وتدميره وعدم توسيع إسرائيل لهذه المعركة التي تتباكى في كل لحظة أنها لصالح إيران وإيران وسوريا من يحركها ويدعم حزب الله..الخ ومع ذلك اتفق الطرفان على أن يتقاتلان حتى آخر لبناني، ألا يمكن الحديث عن تواطؤ موضوعي إسرائيلي / إيراني في حالتنا هذه ؟ وإلا ماذنب لبنان في هذه الوحشية الإسرائيلية والتسلط الإيراني السوري ؟ ومع ذلك نجد أنفسنا أمام عملية تحييد مقصودة للطرف الإيراني وصب جام الغضب على السياسية الأمريكية وهنا لابد ان نسأل : أين هي مصلحة شعوبنا أهي في انتصار إسرائيل وأمريكا أم في انتصار إيران ؟ هذه هي المعادلة الحادة والاستقطاب الذي يتحول إلى شر لأننا في الحقيقة أمام خيارين كلاهما : مخيف لمستقبل المنطقة. وستبقى قضية الاتهامات والاتهامات المتبادلة جراء هذه الاستقطابية بين المثقفين والناشطين العرب قائمة.


نحن بالتأكيد لسنا مضطرين أبدا للقول في كل مرة أننا مع التصدي للاحتلال الإسرائيلي وهمجيته، وتعاطيه الديني/ السياسي مع الشعوب المجاورة له، ولكن علينا في المقابل ألا نغمض أعيننا عن سؤال مركزي ومهم :
من هي الأطراف التي تدعم المقاومة وما هي مصالحها القريبة والبعيدة ؟


ليس أبدا مهمتنا الهروب من القضايا التي تثير الحساسيات والحفيظة بل مهمتنا تتجلى في البحث والتحليل لكل متحرك سياسي دون اصطفافات مسبقة، لنعرف بالضبط ما هو موقفنا علينا أن نقترب من حساسيات الواقع دون مجاملة. علينا أن نتجنب الاستقطابات التي تحاكي حمولتنا الوجدانية والمزاج الشعبوي. وهذا يجعلنا نرى اللوحة بتعقيداتها وليس بتبسيطها وفق ثنائيات لم تعد تصلح سوى لنفس الاستقطاب البوشي من جهة / والديكتاتوري والأصولي الأسلامولي من جهة أخرى ؟

غسان المفلح