بتنفيذ حكم الإعدام بحق الرئيس العراقي السابق صدام حسين يمكن القول: إن الستارة قد أُسدلت على حقبة من تاريخ العراق المعاصر. ولا شك أن هذه الحقبة تثير من الإشجان والأحزان الكثير، وتتناقض حولها
ان مجموعة الصواريخ التي أطلقها على إسرائيل آنذاك لم تخفف من الضرر الذي لحق بالشعب الفلسطيني وقضيته من مغامرات صدام حسين مع إيران أو الكويت. وأنه مقابل الدعم العراقي فقد الشعب الفلسطيني الدعم الكويتي الذي كان أكثر سخاء آنذاك. وساهمت حربه في تهجير ثلاثمائة ألف فلسطيني في الكويت وهم يشكلون أضعاف أضعاف الفلسطينيين في العراق الذين استفادوا من نظام صدام حسين. |
وننطلق هنا من التنويه إنه بالرغم من إدراكنا بوجود سلبيات وإيجابيات لهذه الحقبة فإن ما تم من محاكمة للرئيس العراقي كان حدثاً مسرحياً تم إخراجه أمريكياً وتمثيله عراقياً. وأن محكمته كانت محكمة سياسية ليس للرئيس العراقي شخصياً بل لنظامه السياسي. وأن اقتصار المحكمة على حادث واحد_ وهو ما تم في قرية الدجيل من قتل لما يقرب من مئة وأربع وأربعين شخصاً بعد محاولة الاغتيال الفاشلة لصدام حسين- يبرز عدم عدالة المحكمة وأضاعت الفرصة عن إماطة اللثام عن أحداث كثيرة شهدتها الحقبة الصدامية. وأن هذه المحكمة كانت ثأرية طائفية تحت ضغوط سياسية وإعلامية احتلالية وهو ما افقدها النزاهة والمصداقية. وهنا لابد من تناول النقاط التالية:-
- إن حكم الرئيس صدام حسين كان حكماً دكتاتورياً شمولياً عماده الحكم الفردي المطلق حتى لو اتخذ الشكل الحزبي. فمن الواضح تماماً أن صدام حسين اختزل الوطنية العراقية في حزب البعث العربي الاشتراكي، واختزل الحزب في شخصه. وأن صدام حسين اعتمد في نظامه الشمولي على حزب البعث وجعله أداة من أدوات سطوته، كما اعتمد على طائفة السنة وجعلها عماد نظامه. ومن هنا فإن صدام حسين لم ينجح في بناء الهوية العراقية على أسس سليمة بل على أسس حزبية طائفية ساهمت في خلق وتراكم الأحقاد، وغذت لاحقاً الصراع الطائفي التي تشهده العراق حالياً. فهل صحيح أن الشعب العراقي وكما يتردد على الألسن يحتاج إلى نظام سلطوي لحكمة بسبب تنافر عناصره ومكوناته، وطبيعتها المتمردة مستشهدين على ذلك بشواهد تاريخية تعود إلى فترة الوالي الأموي الحجاج بن يوسف الثقفي أم أن هذه النظرية قد سوقها النظام العراقي من أجل إحكام قبضته وتبرير سطوته. وهي هنا لا تختلف عما يقال عن الشعوب العربية الأخرى في الخطاب الرسمي العربي الذي وجد ترديداً ببغاوياً في الخطاب الشعبي. وأن هذه النظرية هي في الأساس نظرية أوروبية تعود إلى عهد أرسطو، الفيلسوف اليوناني الذي قال: إن شعوب الشرق تعشق الخضوع والاستعباد للقوي المستبد. وبالتالي روج الاستعمار الأوروبي لها لاحقاً من أجل إقناع شعوب الشرق إنها لا تستطيع حكم نفسها بنفسها بشكل سليم، وهي بحاجة إلى دولة أوروبية من أجل تعليمها كيف تحكم نفسها، وأن هذه الفكرة قد شكلت جوهر فكرة الانتداب التي اتبعته فرنسا وبريطانيا في استعمارها للمشرق بعد الحرب العالمية الأولى. وهي تنبثق أساساً من نظرية الرجل الأبيض في مقابل الرجل الأسود المتخلف. ولا يسعنا هنا إلا إبراز العنصرية الأوروبية حتى في التجليات الدينية فمن المعقول أن المسيح كان شرقياً ويفترض أنه يحمل بشرة شرقية ولكن العنصرية الأوروبية تأبى الاعتراف بذلك وهي تتخيل في رسوماتها في الكنائس أن عيسى المسيح أبيض أرياً... الخ. ولذلك فإن ما يتردد على الألسن أن الشعب العراقي لا بد أن يحكم بالحديد والنار كما فعل صدام حسين هو محض افتراء. وأن صدام حسين وإن نجح في بناء ترسانة عسكرية، وثورة علمية وتكنولوجية في فترة الثمانينات فإنه لم ينجح في بناء المواطنة العراقية السليمة. ولم ينجح في بناء الهوية العراقية على أسس مدنية سليمة تقوم صهر العناصر الطائفية والعرقية في مجتمع مدني يحتكم إلى احترام حقوق الإنسان. ولم يقم صدام حسين ببناء نظام سياسي يتجاوز الحزبية والطائفية والعشائرية بل عمق هذه الجوانب مما ساهم في تعزيز عناصر التشرذم والانشطار بدلاً من تعزيز عوامل الوحدة الوطنية الداخلية. حيث أن سياسية التهميش والإقصاء والاستئصال التي تبناها نظام صدام حسين قد رسمت مستقبلاً سوداوياً يعيش العراق واقعه اليوم. ومن هنا فإن سقوط العراق بهذا اليسر والسهولة التي تمت في إبريل سنة 2003م هو نتاج حتمي لسياسية صدام حسين التي جعلت الانتماء للحزب أكبر من الانتماء للوطن، وأن الولاء للشخص تعلو على إي ولاء آخر. ولذلك فإن ما سقط سنة 2003م هو سقوط النظام الذي لم يدافع عنه أحد حتى أكبر المستفيدين منه، وهذا ما يفسر السقوط المسرحي المريع لبغداد ذات الملايين الخمسة من الأنفس. وأن صدام حسين لو نجح في بناء الشخصية العراقية والمواطنة العراقية على أسس سليمة لما وصل الأمر إلى هذا الحصاد المر الذي شهده صدام وشعب العراق. وربما يشكل هذه درساً للآخرين أن بناء المواطن أهم بكثير من ترسانات الأسلحة المخزنة في المخازن والمواقع العسكرية، وأن الأشخاص والنظم زائلة وأن الولاء يجب أن يكون للوطن أولاً وأخيراً.
- إن عهد صدام حسين قد شهد مغامرات عسكرية لم يجن منها العراق إلا الخراب والدمار. فقد غامر صدام حسين بغزو إيران معتقداً أن أوضاعها الداخلية عقب الثورة الإسلامية سوف تسهل له تحقيق أهدافه، وتجعله يحقق النصر بشكل سريع. ولكن الأحداث أثبتت خطأ ذلك. وبالرغم من بروز أخطار هذه المغامرة إلا أن صدام حسين ركب عقله ورفض الاستماع إلى صوت العقل بضرورة إنهاء الحرب. وقام بقتل وزير الصحة العراقي آنذاك الذي كان يناشده البحث عن مخرج مشرف لإنهاء الحرب. وكانت النتيجة أن صدام حسين قد أضاع ثمان سنوات من عمر الشعب العراقي في حرب سقط فيها ما يزيد عن مليون قتيل وجريح، وأهدرت نحو ثلاثمائة مليار دولار (وهي تكفي ربما لبناء شقة لكل عائلة عربية من الخليج للمحيط)، وأكلت الأخضر واليابس وانتهت سنة 1988م دون أي انتصار يذكر. وتبقى هنا التساؤلات هل خاض صدام حسين الحرب العراقية الإيرانية نيابة عن الولايات المتحدة الأمريكية؟ إي أنها كانت حرباً بالوكالة ولذلك حصل صدام حسين خلالها على أسلحة وتكنولوجية أوروبية وأمريكية مقابل دوره هذا. هل ما قام به صدام حسين من حرب على إيران يشكل إنجازاً عربياً أم إخفاقاً ساهم في تشتيت الجهود العربية والإسلامية وإهدارها؟ هل شكلت الحرب العراقية الإيرانية استفزازاً للهوية الفارسية الإيرانية جعلت إيران تلملم جراحها، وتنطلق نحو بناء وحدة قومية فارسية تشكل الآن تهديداً إقليماً للأمن العربي في مقابل تشتت الهوية العربية وتشرذمها.
- إن نظام صدام حسين قد ارتكز على حزب البعث العربي الاشتراكي الذي تم تأسيسه من قبل ميشيل عفلق والذي يهدف إلى توحيد الوطن العربي، وبعْث القومية العربية في دولة واحدة. ولكن هل نجح النظام العراقي في تطبيق المبادئ النظرية للحزب، ويجسدها واقعاً؟ إن قراءة موضوعية للواقع تثبت عدم نجاح الحزب في ذلك بل إنه لم يحقق الوحدة مع نصفه الآخر وهو نظام حزب البعث العربي الاشتراكي في سوريا. وأن كلا النظامين وبالرغم من تبنيهما خطاباً حزبياً واحداً على صعيد القومية العربية فإن قد ارتكزا على بعد شخصي وعائلي وطائفي لا يمت بأي صلة لفكرة القومية العربية وأسسها. وأن حقبة صدام حسين قد شهدت تنافراً واضحاً وجلياً بين نظامي الحكم في العراق وسوريا، ووصل الأمر إلى قيام النظام السوري بإرسال قوات سورية لمشاركة القوات الأمريكية في طرد القوات العراقية من الكويت. ومن هنا فأن نظام الحكم في العراق لم ينجح في تجسيد الوحدة حتى مع أقرب المقربين له جغرافياً وشعارتياً، وهو ما يبرز عقلية التفرد الفردي والسلطوي القطري في الممارسة والسلوك المناقض تماماً للإطار الحزبي النظري.
- إن نظام صدام حسين قد قام بغزو الكويت في 2 أغسطس 1990م محاولاً بذلك تحقيق ضم عسكري للكويت فكر به الرئيس السابق عبد الكريم قاسم سنة 1960م تحت ذريعة تاريخية بأن الكويت شكلت خلال العهد العثماني جزءاً من ولاية البصرة. وقد تم الغزو العراقي للكويت كما قيل وكتب ربما بصمت وغموض الموقف الأمريكي من قبل السفيرة الأمريكية آنذاك في العراق، وتم تفسيره عراقياً على أنه موافقة أو حياد أمريكي. فهل الغزو العراقي للكويت كان فخاً أمريكياً لضرب العراق. حيث أن العراق قد خدم أمريكا من خلال حربه ضد إيران، كما خدم النظام العربي الرسمي في المشرق العربي والخليج الذي كان يخشى تصدير الثورة الإيرانية للتجربة الثورية الإسلامية. وأن الولايات المتحدة قد أرادت تدمير العراق بعد ذلك استمراراً للسياسية الاستعمارية التقليدية التي تضرب الأطراف ببعضها حتى تضعف وربما تفنى ثم توجه الضربة أخيراً للطرف الباقي أو المنتصر. أي أن الولايات المتحدة قد وظفت العراق في خدمتها في حرب إيران وآن الأوان الآن لاستدراجه وضربه لاسيما بعد أن أخذ يهدد ربيبتها في المنطقة (إسرائيل) بسلاح الكيماوي المزدوج. ومن هنا تم استدراج العراق لضرب الكويت لإعطاء المبرر للولايات المتحدة لضربه وهو ما تم من تحالف دولي تكون من ثلاثين دولة _عدداً منها عربية_ بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية. وبذلك ساهم العراق في غزوه للكويت من توجيه ضربة أخيرة للقومية العربية، والتعاون والوحدة العربية، كما وجه ضربة قاسمة للجامعة العربية وقدرتها كجامعة عربية على احتواء الخلافات العربية وحلها. وعزز غزو الكويت حالة التشرذم في الواقع العربي من جهة وعزز حالة التبعية للغرب لاسيما الولايات المتحدة من جهة أخرى. حيث دفع ذلك الأنظمة الرسمية في الخليج إلى الهرولة للولايات المتحدة لحمايتها من نظام صدام حسين، وسارعت إلى توقيع اتفاقيات الأمن المشترك معها. وفتحت أبوابها على مصرعيها للقواعد والأساطيل الأمريكية. ولذلك فإذا أخذنا الأمور بخواتيمها فإن الوضع العربي قد ازداد تأزماً بعد غزو الكويت، وتعزز الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة، وفرض على العرب مؤتمر مدريد الذي فرض شروط السلام الأمريكية والإسرائيلية على المنطقة. ولذلك يجب علينا عدم النظر فقط إلى الخطب الرسمية العنترية التي مارسها النظام العراقي ضد الولايات المتحدة بل يجب قراءة الواقع قراءة سليمة من أجل اكتشاف أن النظام العراقي هو من ثبت أقدام الولايات المتحدة في المنطقة على الصعد كافة. وربما لا نريد هنا ترديد عبارة البعض التي تحمل بعض الصحة في ثناياها وهو quot;أن نظام صدام حسين كان مشروعاً أمريكياً بامتيازquot;. وأن صدام حسين سواء بوعيه أم لا، بإدراك أو بدون إدراك، بقصد أو بدون قصد قد خدم الوجود والنفوذ الأمريكي في المنطقة.
- يردد البعض أن نظام صدام حسين قد قام بنهضة كبيرة في العراق في الثمانينات من حيث مستوى المعيشة، وأنه قدم آلاف المنح الجامعية للطلبة العراقيين من أجل أكمال دراستهم في الغرب في جميع التخصصات المدنية والعسكرية، وهذه صحيح ولكن من خلال التأمل فيما حدث نجد أن صدام حسين قد فعل ذلك من أجل نظامه، وأن تجربته هنا ربما تتشابه مع تجربة محمد علي في مصر في القرن التاسع عشر والذي قام بتجربة نهضوية تلبية لطموحه الشخصي. وأن آلاف العلماء العراقيين الذين عادوا للعراق بعد إكمال علومهم قد وظفوا في خدمة المشروع السلطوي الصدامي، وأنهم قد وجدوا أنفسهم يعاملون معاملة التابع للنظام لا الشريك فيه. ولذلك غادر الكثير منهم العراق بعد عودتهم بفترات قصيرة لأنهم عاشوا التجربة الديمقراطية في الغرب ولم يستطيعوا التكيف بعد عودتهم للوطن. ولذلك فإن النظام وإن قدم المساعدة للإكمال التعليمي لأبناء العراق فإنه لم يقدم لهم المناخ المجتمعي المناسب للبقاء والإبداع. وبالتالي على المدى البعيد فقد استفاد الغرب من الكفاءات العراقية في مختلف التخصصات، وبذلك خسر العراق أبناءه وكفاءاته بسبب البعد السلطوي الشمولي للنظام.
- يردد البعض أيضاً دعمه للقضية الفلسطينية وهذا ما يفسر جماهيريته في فلسطين. ويمكن القول إن هذا الأمر في ظاهره صحيح حيث إن النظام العراقي بقي نظيفاً إلى حد كبير من الدم الفلسطيني بخلاف بعض الأنظمة العربية الأخرى، كما أنه قد قدم الدعم المالي للنضال الفلسطيني لاسيما في انتفاضة الأقصى، وعامل الفلسطينيين في العراق معاملة حسنة يدفعون ثمنها الآن من قبل المليشيات الشيعية إلا أنه يجب القول: إن سياسة صدام حسين في غزو الكويت إبان الانتفاضة الفلسطينية الأولى قد وجه الأنظار بعيداً عن القضية الفلسطينية، وأدخل المنطقة في متاهات جديدة ألحقت الضرر أخيراً بالقضية الفلسطينية، وان مجموعة الصواريخ التي أطلقها على إسرائيل آنذاك لم تخفف من الضرر الذي لحق بالشعب الفلسطيني وقضيته من مغامرات صدام حسين مع إيران أو الكويت. وأنه مقابل الدعم العراقي فقد الشعب الفلسطيني الدعم الكويتي الذي كان أكثر سخاء آنذاك. وساهمت حربه في تهجير ثلاثمائة ألف فلسطيني في الكويت وهم يشكلون أضعاف أضعاف الفلسطينيين في العراق الذين استفادوا من نظام صدام حسين. ولذلك يجب دائماً قراءة الأحداث بنتائجها وتأثيرها وليس بالخطاب الإعلامي الرسمي الذي مارس التضليل على الجماهير في عملية مسح دماغية مقصودة ومبرمجة. وأن ما قام به من فتات للشعب الفلسطيني لا يضاهي ما أهدره من ثروات طائلة على مغامراته السياسية والعسكرية.
- إن صدام حسين وعائلته وأتباعه وحاشيته كانت تتمرغ في النعيم، وتتمتع برغد العيش قبل وبعد الحصار الدولي على العراق فيما عاش الشعب العراقي شظف العيش، وكابد الفقر والعوز والحاجة. وإن ما تم مشاهدته من محتويات قصور صدام وأبناءه يثبت الفارق الكبير بين طبقة نظام الحكم وطبقة الشعب المغلوب على أمره. وبالتالي لم يقدم صدام حسين ولا أبناءه ولا أتباعه نماذج قريبة من الشعب ومحبوبة منه. وأن من يؤيد صدام حسين في العراق هم أفراد عائلته وقبيلته ومنطقته الذين احتكروا المناصب والرتب العسكرية الكبرى في الجيش، وهم الذين تخلوا عنه عندما سقطت بغداد مما سهل لاحقاً من محاصرة ولديه وقتلهما ثم اعتقاله بهذه الشكل المهين الذي تم. وهذه يبرز بشكل قوي ضعف بنية النظام وتركيبته الهشة أمام التحديات الخارجية.
- يحاول البعض الدفاع عن نظام صدام حسين بالقول إنه كان أفضل مما يشهده العراق احتلال وقهر وحرب طائفية وسفك دماء وانتهاك للأعراض، ونحن هنا نتفق معهم ولكن لا يمكن هنا مقارنة وضع سيء بوضع أقل سوءاً. فمن المؤكد لنا أن نظام صدام حسين لم يكن نظاماً وحدوياً على الصعيد الداخلي والخارجي، وأن وحدة العراق سابقاً كانت وحدة زجاجية سرعان من تحطمت أمام أول حجر يلقى أو أول عاصفة ثلجية. وأن ما يشهده العراق اليوم هو بصورة أو بأخرى هو نتيجة النظام الفردي والطائفي الذي مارسه نظام صدام حسين. وهي عملية تراكمية أفصحت عن مكوناتها عندما ارتفعت آلية القمع التي استندت إليها. صحيح أن ما يشهده العراق اليوم هو احتلال أمريكي أوروبي بغيض، وأن جرائمه لا تقل بأي حال من الأحوال عن جرائم النظام السابق بحق أبناء العراق، كما أنه صحيح أن ما يدعيه رئيس الولايات المتحدة وقادة العراق الجدد التابعين له من ديمقراطية ليست سوى ديمقراطية زائفة تستند على حراب الاحتلال القمعي، ومخططاته لاستنزاف العراق عسكرياً وحضارياً واقتصادياً، وأنها ديمقراطية استعمارية تعتمد على نظرية رسالة الرجل الأبيض الحضارية المزيفة إلا أن ذلك لا يعني بأن عهد صدام كان عهداً ديمقراطياً يجب الدفاع عنه والتغني به، والهتاف له. فالحقيقة إن عهد الأمس وواقع اليوم ليس هو ما ينبغي للعراقيين التمتع والإشادة به بل يجب عليهم تجاوزه إلى واقع جديد يبني على أسس سليمة. ولابد من القول إن الرئيس بوش وقادة العراق الجدد لا يقلون حاجة عن صدام إلى محكمة عادلة تحاكمهم على جرائم الحرب التي ارتكبت وترتكب بحق حاضر العراق ومستقبله. وأنني كنت أتمنى لو مثل الرئيس العراقي السابق ويمثل قادة العراق الجدد وسائر الزعماء العرب بلا استثناء أمام محكمة شعبية ووطنية حقيقية بعيداً عن الديكور القانوني، والتصفيات السياسية، والثأر الطائفي، والتبعية الخارجية من أجل إحقاق الحق، وإنصاف الشعوب العربي المقهورة ممن أهدر ثرواتها، وزاد مشاكلها، وأزم واقعها، وداس على كرامتها، وسجن أبنائها، وسحق إنسانيتها، وقهر إبداعها، وبنى عروشه على جماجمها. وأن دم صدام حسين الذي يتباكى البعض عليه ليس أغلى من دماء عشرات الآلاف من أبناء العراق الذين ذهبوا ضحية مغامراته العسكرية الفاشلة. ولكن يبدو أن العقلية العربية الغوغائية تمتاز بالتناقض فهي في الوقت التي تدعو على زعمائها وتشتمهم بكرة وأصيلا في حياتهم تبكي عليهم عند رحيلهم وتدعو لهم بالمغفرة والرحمة.
ولذلك نريد القول إن هذه القراءة قد لا تعجب البعض وربما الكثير، ولكن لم نرغب نحن أن نردد عبارات الكومبارس العربي الغوغائي بل حاولنا تقديم رؤية نقدية ترتكز على العقل أكثر من ارتكازها على العاطفة، ترتكز على أخذ الأحداث بنتائجها وخواتيمها لا في مسبباتها ومجرياتها فقط. وهي قراءة مؤلمة لواقع مؤلم، وربما قراءة قد تجدف ضد التيار المُضلَل الذي ربما سيكتشف الحقيقة يوماً ما فتزول الغشاوة عن عينيه. فنظام صدام حسين هو نظام رسمي عربي سلطوي يمتاز بالحكم الفردي المطلق، وهو لا يختلف عن أي نظام عربي ساهم ويساهم في تراجع الوضع العربي وتأزمه، وأنه بذلك كان جزءاً من المشكلة العربية وليس الحل لها بالرغم من عنترياته الخطابية. وأن هذه الأنظمة لا يمكن أن تنهض بالواقع العربي من خلال أنظمتها الشمولية القائمة على قهر الفرد، وسحق كرامته. وأن البديل عن ذلك هي الأنظمة الديمقراطية الحقيقية التي تحول الديمقراطية من ثقافة إلى سلوك عملي ممارس. ديمقراطية تنطلق من بناء مواطنة سليمة قائمة على العدالة الاجتماعية، وتستند على هوية وطنية تقوم على الولاء والانتماء للوطن وليس الفرد أو الحزب. وترتكز على مجتمع مدني يتجاوز العائلية والعشائرية والطائفية. ينصهر الجميع فيه في بوتقة واحدة تنطلق لبناء الوطن من أجل جميع أفراده دون استثناء ضمن مشروع نهضوي واضح المعالم والحدود بعيداً عن التفرد والارتجالية والعشوائية والتبعية.
د. خالد محمد صافي
التعليقات