ينتاب المرء شعور بالاحباط كبير لدى تفحصه وتأملّه مشهد الشرق في غمار الحياة. الحياة نفسها تفوق التعبير، وهي كينونة لم نخترها لنكون فيها، لكننا تعلقنا بها وعشقناها في رغبة ملازمة ومتحسرة في آن: عشق للحياة وحسرة في اقتناء الخلود فيها. لكن الحياة وفق الاعتبار التخميني والمقرر لها كصفة محكومة بثنايا الوجود هي اضفاء لجمال الوجود نفسه ومتعته. المضي في تشريح هذه الكينونة وفق قانون الحياة نفسه، الملازم للوجود شرقياً في منطقتنا من العالم يصطدم مباشرة بالمكمن الوجودي للحياة. الحياة هنا ليست جمالاً رغم جمال الوجود، والحياة ليست رخاءً رغم توفر الموارد، والحياة ليست متعة مع ان سعة الامكانية لذلك تفوق المتعة نفسها لتقطع بنا ــ افتراضاً ــ مدى الحدود نحو متعة لا محدودة ولا معدودة لا منتهى لأبديتها.


ولكن من مقررات الوجود النوعي في الادراك به هو وجود العقل الذي هو وعاء الأشياء وجوهر الوجود في ذاته واضفاء لوجوده خارج الذات. الانسان ـ ربما ـ هو الكائن الوحيد العاقل في الكون الذي خلقه الله سبحانه ليكون هو مدبّر الحياة في الأرض ومضيف البهاء والعطاء في الحياة. العقل كائن خارجي عن الوجود بالرغم من كينونته في الوجود. العقل يدرك الأشياء ويسميها ويصنفها ويتعرف على الوجود ويقرّ به. العقل هو عين الانسان في وجوده وعدمه. فالعقل قائم رغم انتهاء اجساد أولئك البشر اللذين قضوا شطراً من الحياة في حيز الوجود، في أمسٍ اختفى في ثنايا الزمان.


إذن العقل هو الوجود وهو الحياة وهو الزمان ملازماً أو مفارقاً: ماذا يعني الوجود لمن لا يملك عقلا؟ والعقل كما قلنا موجود حتى لو كانت الكلّيات الكبرى غائبة: الحياة والمكان والجسد، لان العقل رغم كونه في حيز الوجود لكنه يتفوق عليه لانه يقطع مداه، ومن هنا تكمن عظمة الإنسان انه كائن فوقانيّ و سامي لأنه عاقل.
في شرقنا أفرش المكان نفسه، وازدهرت الحياة، واضفى الوجود نفسه اكتشافاً وسموّاً باستقبال الانسان في كنفه باعتباره سيد الوجود!


لكن ما يجري في الشرق مخجلٌ ومحبطٌ وقاتم. الانسان الشرقي المسيطر على الوجود في تلك البقعة يضرب الأنحاء كلها في دأبٍ مستمر لاعدام الحياة. هذا الصنف من الشر اردف امواج الوجود والحياة في منطقتنا في حركة التاريخ منذ زمن. ليس تعميماً وصف الشرق ولكنه تشخيص لنموذج قائم ومسيطر. والشرق بعيداً عن معنى اللفظ، إشراقٌ وشروق: يُعطي مفهوم الحياة وابتدائها ومسيرها، تحوّل الى ظلام دامس يكاد يمحو الوجود لأن (العقل) بدأ يرفض الحياة ويريد دون طائل فرض ارادته الالغائية على الوجود.
ما هي الطامة الكبرى في وجود عدة اصناف من الثقافات والأديان والقوميات في منطقة يتعدد الوجود في تنويع اصيل في الحياة: سواحل وبحار من جانب، وصحراء وسهول في طرف، وجبال وخضار في علياه، وانهار وبساتين في امتداده، والحياة تتلون وتزدهر ما لم يكن هناك بشرٌ يطمسون في ارادة فساد وشرّ وشهوة؟


خارج سياق الحروب والمعارك والفتن في منطقتنا فان الغاية من وجودنا فرادى، هو السلام والرخاء والهناء. الإنسان يهوي اشباع رغباته ويشارك الآخر الذي يكمل وجوده ويضيف البهجة اليه. هل يسعد احدنا بالحياة لو بقي وحده فيها يتيما؟
ان الغاية المرجوة في الوجود هو ان يعيش الواحد بامان ويمكنن نفسه من بناء العائلة: خلية الحياة، ثم يضفي عبر جري الحياة بصمته وابداعه وعطائه.


يفيق الواحد صباحاً والحياة بدأت دورتها. أطفالٌ يسرعون الخطى الى المدارس اصواتهم ترسم الوان المستقبل. الجميع يريد كسب قوته ليواصل الحياة. ثم نسند الى جانب الظلام نرقد فيه نفلل بعض التعب والهلاك. هل يختلف في هذا الكُردي والعربي والتركي والايراني والمسلم والمسيحي والمؤمن والملحد؟
لقد سلّمت الأكثرية عندنا امر الحياة في أيادي قلّةٍ قليلة لا تشبع من الشهوة والسطوة والخراب، وهي تجرّ مجاميع البشر مثل الشياه الى مذابح جماعية لا تستقر آوارها في منعطف مرجو.
الانسان غائب هنا لأن العقل مكبلٌ في جحيم العصبية والعنصرية. الجسد حاضر والغريزة حاضرة والاصناف تاكل بعضها بعضاً وينال قطيع من قطيع آخر، في شرقٍ يكرر في وجوده غابة الحروب النزعانية الالغائية.


الإنسان غائب. الإنسان السامي الرفيع العاقل غائب هنا، لأن العقل كائن غير موجود. الدين والثقافة والتجربة في التاريخ تفيدنا فرضاً ولزوما اتباع مسيرة السلم والعطاء في فرص متكافئة بين البشر، لكنهن يتحولن ـ ويا للعجب ـ الى اسلحة بيد تلك الأقلية الحاكمة في غابتنا واللتي تعبث بالحياة في وصال مشدود الى الشهوة والخراب.


لم اجد كُردياً واحداً في اقليم كُردستان إلّا ويلعن كبار القوم من ساسة أكراد حوّلوا كُردستان الجميلة الى ساحة خراب ودمار. فرّغوا خزائنها من الخيرات سارقين دمعها وعرقها الى البنوك الشقراء في الغرب، تاركين الشعب الكُردي في هودج الفتن وتحت اقدام عواصف وأعاصير الحرمان واليأس والمعاناة.
لم اجد عربياً إلّا ويلعن قادة العرب وساستهم. الأتراك إذ يلعنون جنرالاتهم مازالوا يدفعون فواتير ثقيلة من دساتيرهم القائمة الى اليوم. أقوامنا غير راضية عن (قوّادها) وهي تقودها باستمرار نحو حافاة الموت والفناء، لكنها عملاً بالغريزة تصطف ورائها حين تتأجج احاسيس القومية والطائفية والدينية، لأن الوجود البدني للقطيع يتعرض الى الزوال. كنت أشرت في مقالي السابق أن المستفيدون من الهلوسة بين الأكراد والأتراك هم القادة الفاسدين بين الجانبين، المتاجرين بالإنسان هناك. وقبل أشهر كتبت تحت عنوان: الصراع بين قادة الأكراد وجنرالات تركيا ادعاء وزيف. مازلت متمسكاً برأيي ذاك. فهذان الفريقان غارقان في ملذات الحياة وشهواتها حتى اتخمتهم صنوف الأمراض والآفات حداً لا يباليان بالألوف المؤلفة من أناسهما تتحول الى قرابين على مذبح الفقر والمعاناة والعذاب، لكنهما في اتفاق ضمني وارتجالي في آن يؤججان حماس القطيع ورائهما كلّما خفت صوته، او نال حظاً من التفكير في مصيره، او اهلكه التعب في مسير الموت الذي يبلّط قواده طرقه مرحلة بعد مرحلة. فسرّ بقاء قادة الموت (اللذين لا يموتون حبّاً بالحياة) هو هلوسة وحماس وصراخ القطيع ورائها. لكنها، اي القادة، وهي تهيّج الفرق لتتبارز، تقعد في المنصة تتلذذ وتشتهي المشهد وهي تملأ بطنها بما تحرم منه أناسها المصفقين والمهللين خلفها، في حروب العنصرية والعصبية الفاسدة المريضة القاحلة. هذه هي وقائع الحياة في الدول الاقليمية القومية الشرقية واللتي ساخصص في قريب عاجل مقالاً عن اسباب عيشها في اضطراب وازمة مستمرين.


قادة الأكراد الفاسدين المجرمين السارقين للقمة العيش من افواه الفقراء، مودعين كل قطعة من نقود الأكراد في بنوك الغرب يقودون حملة هلوسة تستر جرائمهم حيناً من الزمن وينسّون الشعب تذمره ومقته وغضبه منهم، من القادة المجرمين.


وجنرالات تركيا التي لم تجلب للدولة التركية غير الخراب والفساد والموت وهي مدعوة اليوم الى الرحيل، تجد من العنصرية القومية متنفساً اصطناعياً لبقائها في القيادة لتتمتع بشهواتها، وبموت بشرٍ ناشئ فتحت لهم الحياة لتوها ابوابها، في الوقت الذي تتجه الجنرالات الى التلاشي من الحياة لهرمٍ أو مطلب حياتي وحضاري معاصر.


حروب كثيرة، ومعارك جمّة، وفتن وكوارث متلاحقة بين قومياتنا وطوائفنا وبلداننا واحزابنا منذ عقود. ولكننا نتيه فيهن وفي السياسة وننسى جوهر الحياة لأن الإنسان غائب في هذه البقعة. والإنسان يغيب اذا صرف نظر مقاصده وموقعه وكينونته عن جوهر وجوده: فرداً، يبتغي السعادة في الحياة فترة قصيرة لا يعوضها أحدٌ اذا فقدها. فالهلوسات والعنصريات والعصبيات والاحزاب والقوميات والطوائف والأديان لا تمدنا بالحياة. فحتى الدين جاء لخدمة الإنسان، لكنه حين يتحول الى بيرقٍ في يد القواد ليثير القطيع، ينصرف الى كينونة غير كينونته والى دربٍ غير ما يبتغيه. وعلّة العلل في هذا الشأن والمصير، اي غياب الإنسان في الوجود، هي غياب العقل الذي كان ويكون دوماً هو الإنسان نفسه، وبغيابه ستتحول الحياة الى موت محقق.

علي سيريني