هل ثمة مبالغة إذا ما قلنا بأن المجتمعات العربية والإسلامية بشكل عام عادةً ما تقوم بنبذ مثقفيها وتضيق ذرعاً بهم وبآرائهم وبتوجهاتهم، وتعمل على عزلهم واقصائهم، فهل أصبح المثقفون خطراً على هذه المجتمعات، وبالتالي يجب التبرؤ منهم بشتى الطرق، وهل أصبحوا يشكلون عبئاً ثقيلاً على مجتمعاتهم بحيث لم تعد قادرة على تحمِّل أفكارهم أو حتى مجرد السماح لها من باب حرية التعبير.؟
ولا أقصد بالمثقفين هنا، أولئك المؤدلجين الذين لم يزالوا يتخبطون في ماضوياتهم الفكرية والثقافية والعقائدية، فالمثقف المؤدلج هو في النهاية نتاج الحالة الثقافية المجتمعية السائدة والراكدة والواقفة، الغارقة بذات التهويمات والمنقولات والأدلجات القومية والدينية منذ أكثر من نصف قرن تقريباً، ويقوم المثقف المؤدلج بإعادة انتاجها وتسويقها تحت مسميات جديدة ولكنها تحمل ذات المضامين الثقافية المهترئة التي لم تستطع أن تساهم بالمنجز الثقافي الكوني، وبقيت حبيسة الأوهام والأطر الهوياتية الضيقة، ولم يزل المثقف المؤدلج يعتقد بأن العالم كله يتآمر عليه وعلى ثقافته وتاريخه ومعتقداته، ولم يزل مشبّعاً بالشحنات الثقافية العدائية للآخر المختلف، والمثقف المؤدلج هو في النهاية نتاج النموذج الثقافي المعترف به مجتمعياً، ولا يستطيع إلا أن يكون عاكساً لنموذجه الثقافي الذي تأسسَ وتغذى على أدلجات الفكر القومي وعلى شعار ( الإسلام هو الحل ) ويجب أن يأتي المثقف المؤدلج وفقاً لحسابات ومقاسات ومفاهيم نموذجه الثقافي المعترف به والمعمول به وإلا أعتبرَ في خانة العملاء والخونة والمخربين..
وإلى يومنا هذا لم يفق المثقف المؤدلج من وهم الأيديولوجيات القومية والدينية، ولم يفق من زيف المشاريع الخاسرة التي تبنتها وبجدارة تلك الأيديولوجيات على الرغم من كل المتغيرات والتحولات والتطورات التي تعصف بالعالم من حولنا، ويعرف المثقف المؤدلج بأنه يعيش في وهم كبير وكذبة أكبر، ولكنه لا يريد أن يخرج من سجونه الثقافية والأيديولوجية والعقائدية، لأنه لا يملك بديلاً عن نموذجه الثقافي الذي وجد نفسه فيه بوعي منه أو بغير وعي، وكذلك فإن المثقف المؤدلج هو صنيعة تراكمات الهزائم العربية المتتالية، وصنيعة الفكر الاستبدادي القومي وليسَ أدل على ذلك سوى جموع المثقفين الذين تألموا نفسياً وشعورياً وثقافياً وعروبياً حين سقوط النظام القومي الاستبدادي في بغداد، وأصبح الوجود ( الأمريكي ) في العراق جارحاً لأحاسيسهم القومية الرقيقة، بينما ما كان يفعله نظام البعث البائد في بغداد بحق شعبه من قمع وترويع واستبداد على مدى ثلاثة عقود لم يحرك في أحاسيسهم ومشاعرهم القومية حماساً ودفاعاً عن حقوق الإنسان العراقي المقموع والمعذب..
ولم يزل المثقفون القوميون والدينيون المؤدلجون إلى هذه اللحظة يدافعون عن ( القضايا ) المصيرية لأمتهم العربية والإسلامية ويجدونها أهم بكثير من الدفاع عن حقوق الإنسان في أوطانهم كما يقول الكاتب الكويتي فاخر السلطان، وكذلك فإن المثقف المؤدلج صنيعة الرأي العام العربي والإسلامي، ذلك الرأي الذي يتشكل وفقاً لموروثاته الثقافية ووفقاً لاتجاهاته وحماساته العاطفية الفارغة، ووفقاً لمعتقداته وتعاليمه التراثية ونصوصه المقدسة، ولا يستطيع المثقف المؤدلج إلا أن يأتي مبرمجاً لترجمة الرأي العام العربي والإسلامي بكل تفاهاته وسذاجته، ذلك الرأي الذي يجد مثلاً في حادثة المعلمة البريطانية في السودان اساءة بالغة لدينه ومعتقده واسلامه حينما تمّت تسمية ( دمية ) من قِبل التلاميذ باسم ( محمد ) الرائج مجتمعياً في بلد مثل السودان، وفي الوقت نفسه هذا الرأي العام العربي والإسلامي لم يكترث لحقوق الإنسان المهدورة في ( دارفور ) ولا يجد في التعدي على حقوقه أية اساءة للإنسان هناك، وأجدني في الحقيقة لستُ مهتماً بالحديث عن المثقف المؤدلج ولا يعنيني ما هو عليه الآن، وربما لم يعد في حساب الكثيرين غيري أية أهمية تذكر، لأنه وبكل بساطة لم يزل يسوّق لبضاعة فاضحة لا تحوي سوى الفراغ والوهم والصدأ..
بل ما يعنيني هنا هو الحديث عن المثقف الحر الذي يمارس دوره الثقافي والمعرفي متحرراً من أوهام الأيديولوجيات الهالكة، ورافضاً للأطر الهوياتية المقيّدة للانفتاح والتجانس والتحاور مع الآخر، ومتحرراً من هيمنة البرمجيات الثقافية التي تكبّل العقل بالسائد واليقيني والثابت والمقدس والماضوي، واضعاً بذلك نفسه عقلاً وكياناً وفكراً ووجوداً بديلاً قائماً بذاته في ذاته عن منظومة العقائد الدينية والتراثية السائدة، تلك التي لطالما وجدت في المقدس سواء أكان نصاً أم مفهوماً أم نظاماً أم عقيدةً شأناً أعلى من الإنسان، إنه المثقف الذي يدرك أبعاد وجوده فيخلق بذلك تفكيره وقراره واختياره وحاضره ومستقبله خارجاً عن أرصدة المفاهيم المسبقة ومتجاوزاً وثنية النص اللاهوتي، ويحلق بعيداً عن أية انغلاقات هوياتية تسجنه في عقائدها الماضوية أو العدائية، ويمضي بعيداً عن أية عناوين وتعريفات وقوالب ومسميات نهائية أو يقينية أو مطلقة، وإنه المثقف المعني دوماً باجتراح صياغات فكرية وفلسفية وأدبية قادرة على التأقلم والتعايش مع عالم يتسم بالتعددية الفكرية والثقافية ومفعم بطاقة التغيير وبمنطقية التحول العقلاني، وإنه المثقف الذي يهب الحياة فلسفته المشرعة على أكثر من أفق واتجاه وطريق، ويحررها أي الحياة من منطق التعريفات السائدة والثابتة والجازمة، ويحررها من منطق الشكليات المعتادة، إنه يتجاوز بذلك المحسوس من الحياة إلى فسحات من الخيال المتوهج بالثراء الفلسفي والفني والمعرفي، ذلك الخيال الدافع للتوهج الذهني والباحث عن ما تخفيه الأشياء خلف ظواهرها المعلنة، وإنه الخيال الذي يستفز التفكير نحو فتوحات معرفية مبتكرة لا تعترف بحتميات الحقيقة المطلقة، وربما كان أنيشتاين محقاً حينما قال: الخيال أهم من المعرفة..
والمثقف الحر إنساني النزعة، لا تحكمه الهويات الخانقة، ولا تستبد به النصوص التراثية، ولا يقبل بالتلاشي تحت ركام المقدس، ولا تؤدلجه الشعارات، ولا تسكنه الأيديولوجيات والأوهام، ولا يتنفس وجوده إلا في فضاء الشك، ولا يستحضر أمجاداً غابرة ليقيم عليها سرادق العزاء، ولا يمارس الاستبداد الفكري تحت عناوينه ومسمياته ومنقولاته وآرائه، ولا يتصدر معارضة السلطة والاستبداد إلا لأنه يؤمن بحقه وحق الآخرين أيضاً في الرأي والتعبير والحرية، من دون أن يستبد عليهم بفكره أو برأيه، ولا يستكين للجمود والتقوقع والتوقف بل يتخلق في مخاض التغيير ومواجهة الذات، مواجهة الذات التاريخية والذات التراثية المقدسة، ولا يستهلك نفسه في ترديد ثقافة التلقين والشفاهية، ولا يستحضر أمواتاً من قبورهم لكي يصنعوا له مجداً أو يعبروا به نصراً، ولا ينتظر بطلاً أو منقذاً أوحداً يجيء من خلال الأمنيات والدعوات والأحاديث والفنتازيا التخيلية لكي يخلصه من واقعه أو يهبه حياةً ملؤها العدل والقسط والرخاء فضلاً عن إنه من الأساس لا يستطيع المثقف الحر أن يهضم فكرة أن العالم الحديث والمعاصر والتعددي يجب أن يرتهن لثقافة الفكر الأحادي للمنقذ أو المخلص، ولا يلزم نفسه المثقف الحر بما ألزمت به العقائدَ أو الموروثات أو الجهالات الناس، ولا يهدر كرامته وحريته إرضاءً لجموع الهاتفين في استعراضات الشعارات والمقولات الشعبوية الساذجة والهشة والاستهلاكية..
والمثقف الحر ينتهج دائماً طريق النقد والتفكير والمساءلة، ولذلك فإنه يصطدم بالحالة المجتمعية الثقافية الخاضعة لهيمنة الموروث والسائد، ولكن ذلك لا يثنيه عن متابعة طريقه في التنوير ومحاربة الزيف والتعصب القومي والديني، وتحرير العقل من التسلط الأيديولوجي ومن الأوهام والخرافات، لأن من أهم مهامه الثقافية التي يتبناها المثقف الإنساني الحر دائماً اختياره وانحيازه للموقف النقدي الذي يعي أهمية دور الإنسان وحقه في خلق وجوده وتفكيره وقراره وذاته وثقافته، وقدرته على الخروج من ثقافة الانغلاق والماضوية والتعصب والاستبداد، ومن ثقافة الارتهان للأيديولوجيات القامعة للنقد والتفكير إلى رحاب العقلانية والحداثة المعاصرة وحقوق الإنسان والديموقراطية والحريات، وانفتاحه على التعددية ومساهمته في صناعة الوقائع الثقافية التداولية، ولذلك عادةً ما نجد أن المجتمعات العربية والإسلامية السائرة إلى الآن في ركاب الاستعراضات الثقاقية الوراثية المحدودة والضيقة ولا تريد الخروج من الماضي المعيق، ومن فكر الأيديولوجيات القومية والدينية السالبة لحق النقد والمساءلة، هذه المجتمعات تحارب المثقف الحر وتصادر رأيه وحريته وتضيق ذرعاً بأدواره النقدية والتفكيرية والإبداعية، وتجده بالتالي عبئاً على موروثاتها الثقافية المهيمنة والسائدة والمستهلكة، وتجده عبئاً على عقليتها العقائدية المبرمجة تلقائياً على الموروث والسائد واليقيني..
محمود كرم
كاتب كويتي
التعليقات