كان ذلك اكثر من ربع قرن على ذلك الرحيل، كل يحمل آماله المؤجلة في مجهول يبدو له محطة عبور الى مجهول آخر، تاركا ً ذكرياته، عبير طفولته الاولى على ضفاف دجلة والفرات، مسكوناً بهاجس العودة الى عراق متحرر من الطغاة والقتلة.


في عام 1980 أحتضنت دمشق المئات من العراقيين الهاربين من جحيم دكتاتورية صدام وحروبه،
ففي مقهى( الروضة ) في دمشق تكاد ترى العشرات من العراقيين، من كل الكفاءات والشرائح الاجتماعية كلُ يحكي قصته للآخر، يتبادلون الصحف والكتب ويتناقلون اخبار الوطن،محملين بالآلام والآمال الكبيرة التي ناضل كل ُ حسب موقعه من اجلها لسنوات طويلة، يودع بعضهم البعض في عناق اخير، حين يتوجه الكثير منهم الى الوطن، لينظم اغلبهم الى قوافل الشهداء الخالدين.


يشربون شاي الصباح في المقهى ذاته، ويقرأون الصحف اليومية، حتى انك تكاد تميز العراقي في شوارع دمشق يومها، عن بقية المارة، وهو يحتضن الكتاب والجريدة متوجها الى المراكز الثقافية، او المكتبات، اودور النشروالاعلام.


لقد شكل العراقيون في تلك الفترة تجمعا ً ثريا من المثقفين والاكاديميين والمبدعين، والفنانين بأسماء لامعة هي ذخيرة لثقافة عراقية اصيلة أسست لها، تجربة ثرية من ارث حضاري، مشبعا ً بتجربة سياسية ذات بعد انساني، يعترف بالآخرويناضل من اجله، فوجدوا السبيل الى مواصلة ذلك، كل حسب امكانياته وظروفه رغم الصعوبات، وضائقة العيش، يمدون جسوراً الى وطنهم بسلاح الصبروالتحمل، من اجل مبادئهم السامية و قضاياهم العادلة، تلك النخبة التي آثرت العيش خارج الوطن، والبعد عن الاهل والاحبة، على ان لا تركع للطغاة والجلادين والقتلة.


لقد زخرت المراكز الثقافية في دمشق انذاك بنتاجات فريدة من نوعها في مجال الشعر والقصة والمسرح والفن التشكيلي بكل انواعه، فلا يكاد يمر يوم دون ان تجد نتاجا من ذلك، فرغم ان اغلبهم لم يكن يملك حتى ثمن وجبة اكل واحدة، ويعيش مع مجاميع في ظروف سكن قاسية للغاية، الا ان الروح العراقية المرهفة المشبعة بالحس، المرتوية من كل ماهو جميل من ارض الوطن، كانت تطلق عنانها في الكلمة والاغنية والقصيدة واللوحة والكتاب، وآلة العود. ففي البيت الواحد كانت تجمعهم آصرة الحب، يتقاسمون الخبز والهم والفرح المؤجل، والعراق الحاضر بينهم اينما حلوا، وكيفما كانوا.


لقد عاش العراقيون تلك الفترة الصعبة، دون ان يخطر حتى في بالهم ان يكونوا( لاجئين)خارج حدود ذلك المكان والزمان، بل كان تعاطفهم لاحدود له وهم يؤازرون اخوة لهم يعيشون في ظل الاحتلال و في مخيمات اللاجئين في فلسطين ولبنان وفي شتى انحاء العالم، وقد سقط لنا شهداء في سوح المعارك ابان حصار بيروت يومذاك، وهم يقاتلون مع اخوة لهم دفاعاً عن قضايا شعب تشرد عن ارض وطنه، وقتل الآلآف من ابنائه تحت وطأة الاحتلال الاسرائيلي..


كان ذلك اكثر من ربع قرن مضى، ليعيد التأريخ محنة العراقيين التي لاحقتهم، في الحروب الطاحنة، وفي حصار ازهق ارواحهم، وارهق اجسادهم لسنوات طويلة،و بكوارث بشرية، سياسية واجتماعية واقتصادية عصفت بخيمة الوطن، ليتحول العراق الى مقابر ومجالس عزاء ( يحرم فيها حتى البكاء والحزن)، والعراقي المرغم على العيش تحت هذه الوطأة، والمحنة العصيبة، لاحول ولا قوة له سوى الصبر والتحمل، حتى جفت دموع الارامل والثكالى، في حزن دفين ادمىقلوب النساء العراقيات، لتحل المآسي والفجيعة، بدلاً من الافراح في كل بيت عراقي.


هنا يتوقف الزمن ليعيد التأريخ كارثة بشرية، مختومة بالدم النازف، مطاردة بالمفخخات والالغام.. الاف من العراقيين يتوافدون كل يوم الى دمشق وعمان، تاركين جراحهم تنزف في وطن يأن تحت وطأة الاحتلال، وعجلات الدبابات الامريكية، والموت المجاني لبشر لا ذنب لهم الا لكونهم عراقيين..هنا في زمن لا يجد العراقي الذي عاش ابياً مخلصاً محباً لوطنه العراق، مأوىً له.. فبأسم العروبة والتأريخ واللغة ترفضهم بلدانهم العربية، التي غنوا لها اول نشيد مدرسي( بلاد العرب اوطاني.. من الشام لبغداد).. الان وفي هذا الزمن الذي تضيع فيه المقاييس وتستباح فيه القيم لا يجد العراقي مفراً له، وهو يطرق ابواب مكاتب( الامم المتحدة)، علهاتنقذه ب(اللجوء) الى بلدان اوربا وغيرها، بعد ان باع كل ممتلكاته،مرغماً على ترك وطنه، لينجو من طاحونة الموت، والقتل اليومي.


هنا يتوقف الزمن في حدود اللا معقول، حين ُيحتجز العشرات من العراقيين في مطار عمان، لمدد تتراوح بين الثلاثين والاربعين ساعة، مع سيل من الشتائم والكلام المبتذل الرخيص..اكاديميين واطباء ومثقفين من كل الشرائح والمكونات العراقية الاصيلة، لجأت الى عمان كي تنجز اموراً رسمية تتعلق بعوائلها وحياتها اليومية، لتعيدهم سلطات المطار في عمان بطائرة واحدة الى مطار اربيل ودون اي مبرر يذكر؟؟
في دمشق تلك المدينة التي احتضنت الآلاف من العراقيين في زمن اسلفنا ذكره، تكاد تسمع انين العراقيين الذين تجمعوا خلف ابواب مكتب( الأمم المتحدة) يلتمسون العون،و يطالبون بالسماح لهم بالبقاء في سوريا التي رفضت طلبات اقامتهم، وقررت اعادتهم الى العراق حيث المصير المجهول، والصدفة التي قد يعيشون او يقتلون فيها..


لقد رحل العراقيون في الثمانينات من العراق، سالكين دروب لا يعرفون قرارها، الى مصير مجهول، واليوم يرغمون بالعودة الى العراق، الى مصير ليس مجهولا فحسب، وانما الى وطن يعيشون فيه منفيين خارج حدود الزمن والتأريخ، وفرص الحياةالحرة والكريمة..


هي معادلة صعبة للغاية.. والاصعب منها ان نعيش في زمن تستباح فيه حياة و كرامة وحق الانسان العراقي، في صمت عربي، وعالمي مقيت، ضحيته نزيف الدم العراقي الزكي، الذي يأبى ان يزكم تلك الانوف..ويوقض تلك الضمائر..

لقد انشدنا ورددنا وردد من بعدنا اجيال واجيال ذات النشيد:

(بلاد العرب اوطاني... من الشام لبغداد)..

هيفاء عبد الكريم

[email protected]