كنت في وقت سابق من نهاية عام 2006 قد كتبت سلسلة من المقالات بعنوان ( الديمقراطية هي الحل ) وتعرضنا فيها للتحولات النسبية التي جرت على صعيد الانتقال الديمقراطي في المجتمعات العربية ووجهتنا ألا نعمم النموذج العراقي على كل الحالة العربية. كما تعرضنا للدور الغربي عموما والأمريكي خصوصا في هذه التحولات التي تمت بشكل سلمي في غالبيتها. وافترضنا سلفا كي لا يعترض علينا المتشددين في الجناح الديمقراطي من المعارضة العربية أن نسمي مجمل هذه التحولات بالديمقراطية( الشكلية ). ونقصد المتشددين في فهمهم القيمي للديمقراطية كنموذج عمل مثالي. ينظرون إليها وينظرون لها بوصفها الوصفة السحرية التي ستحل كل مشاكل البلدان العربية دفعة واحدة. كما كنا ننظر نحن إلى الانتقال الإشتراكي من ضمن اليسار في العالم العربي. واستكمالا لتلك السلسلة وجدنا أن التنظير للديمقراطية أمر مهم جدا ولكن الأهم أن يتم في تفاصيل التاريخ وليس وفق أبجديات الأنساق النظرية التي تقدم الديمقراطية بوصفها حامل ونموذج مثاليين. وهذا يفترض علينا التمييز بين الانتقال الديمقراطي الذي يتم بفعل قسري خارج إرادة السلطة القائمة وسواء كان هذا الفعل قسريا يفرضه المجتمع وقواه الفعلية على تلك السلطة ـ وهذا لم يحدث بعد في عالمنا العربي ونعتقد أنه لن يحدث ولهذا أسبابه التي يمكن أن نعالج قسما منها في وقت لاحق ـ أو تفرضه عوامل خارجية كالذي حدث في العراق. وبين الانتقال السلمي بوصفه بالضرورة يحمل عنصرا مركزيا هو إرادة السلطة القائمة وهذا حدث في بلدان كثيرة من العالم المنظومة الإشتراكية والبلدان العربية وبعض بلدان أمريكا اللاتينية. ونحن في العالم العربي كنا دوما في آخر اللائحة سواء لجهة البدء في الانتقال الديمقراطي أو لجهة عمق التحولات التي تمت بفعل الانتقال بإرادة السلطات القائمة:
مصر تونس المغرب اليمن دول الخيلج. مع التمييز بين كل بلد في عمق التحولات التي تمت أو التي أرادتها السلطات في هذه البلدان. ونحن نميل إلى أن المغرب هو أكثر البلدان التي تم فيها تحولات عميقة على بنية السلطة والمجتمع معا. ونكاد نقترب من نموذج ـ الملكية الدستورية ـ السائدة في بعض البلدان الأوروبية. أما في مصر فقد أخرت هذه التحولات قضية دخلت مجددا على الخط بعد عام 2000 وهي التوريث الجمهوري. فقد استساغ الرئيس حسني مبارك قضية توريث نجله بعدما شاهدها تحدث بسهولة في سورية. وبلا برنامج سياسي جديد، فما بالنا والرئيس مبارك ونجله يتركان للوريث أن يتقدم ببرنامج يزعم فيه أنه سينتقل بمصر إلى مرحلة متقدمة من الديمقراطية وحقوق الإنسان والحرية مع الإصلاح الاقتصادي ومحاربة الفساد وقيام دولة قانون حقيقية هذا هو البرنامج الذي يلف به السيد جمال مبارك على قطاعات الشعب المصري لكي تقبل به وريثا شرعيا! وهذا وجد لدى قطاع واسع من الشعب المصري والفعاليات المصرية صدى يؤمن لجمال مبارك درجة ليست قليلة من المشروعية مع حضور لإدارة أمن الدولة المصرية بالطبع!! يؤمن له نجاحا باهرا في انتخابات حرة ونزيهة. هذ التوريث الشرعي! كالذي سيحدث في مصر إن حدث فهو تبييض رسمي لثقافة فاسدة. وأيضا لو أن رئيسنا الشاب بشار الأسد تقدم بجرأة وطبق برنامجا إصلاحيا ديمقراطيا حقيقيا كان يمكن له أن يبيض صفحة توريثه غير الشرعي أي الذي تم فرضة بلا انتخابات تنافسية وبفعل تغيير الدستور السوري مرتين خلال دقيقتين فقط. وكان قد تحول إلى بطل الديمقراطية والحرية في سورية وبنفس الوقت كان له أن يبيض أموال كل النخبة الفاسدة التي تحيط به من مسؤولين في السلطة والدولة ورجال أعمال مشهود لهم بالفساد الذي يعتمد على قربهم من السلطة. ولكنه فضل البقاء في المنطقة التي تقول: نحن هكذا بلطوا البحر!
في الانتقالات السلمية لم يجري في العالم محاكمة الفاسدين في النظم السابقة لسببين:
الأول هو أن الفاسدين أنفسهم قاموا بعملية الانتقال الديمقراطي. والسبب الثاني ربما يتعلق بأن الفساد لديهم قد أصبح عبر ورثتهم قانونيا ولا أحد يستطيع إدانتهم في المحاكم من جهة. وتكتفي الشعوب بأن حريتها قد تحققت لتقول عفى الله عما مضى، وهذا ما حدث في المغرب وتونس ومصر واليمن. ولكن التجربة العراقية أظهرت أن الفساد الثقافي هو من أخطر ما تتركه النظم الديكتاتورية في مجتمعاتها المغلقة على ثقافة تتيح استمرار الهتاف وكل الثقافات المتخلفة من طائفية وعشائرية..الخ ولكن تبدى الأمر أن الفساد الثقافي هو من يسبب الحرب الأهلية في حال تم الانتقال وفق صيغة انهيار الدولة القائمة وهذا ماتم في الحقيقة في الجزائر لأن قسما من شرعية الدولة قد انهارت بعد انقلاب العسكر، وهذا ما نشاهد دمويته في العراق الآن. وسأنتقل بالحديث عن سورية مربض الفرس:
المعارضة السورية بكل أطيافها تطرح التغيير السلمي أو الانتقال السلمي نحو الديمقراطية وكلها رحبت وترحب في حال تم هذا الانتقال بإرادة السلطة القائمة. منذ تولي الرئيس بشار الأسد مقاليد الحكم. وهذا الترحيب في الحقيقة شئنا أم أبينا هو إقرار على أن ثمن هذا النوع من الانتقال بإرادة السلطة نحو الديمقراطية هو: تبييض فساد هذه السلطة وريثما يتمكن المجتمع من استعادة عافيته والبدء بحالة من الشفافية القانونية يكون الفاسدين قد ماتوا ربما أو تبيضت كل أموالهم. وريثما يتخلص المجتمع من ثقافته الفاسدة أيضا ومحسوبياته التي كرستها السلطة ويتم تشكيل مراكز قوى اقتصادية وسياسية جديدة تؤمن بالنزاهة والقانون يصبح الفساد المالي سهلا أمام هذه المهمة الشاقة التي سوف تنشر ثقافة الديمقراطة وحقوق الإنسان. أمام هذا الركام من الثقافات المتخلفة في الحقيقة سواء كانت ثقافات شمولية دينية ـ دينية تريد تديين الدولة المنشودة ـ أو غير دينية أو طائفية أو عشائرية..الخ
وإذ يتم الأمر بهدوء وسلم أهلي فإن انتقال المجتمع إلى هذا الفضاء النظيف نسبيا يعني تبييض الفساد الثقافي الذي زرعته الديكتاتوريات مستندة على عوامل التاريخ وربما الجغرفيا أيضا. وسأضرب مثالا ربما له حساسية خاصة:
وهذه قضية لاعلاقة لها بالفساد المالي ربما، ولكن لو تم الأمر في سورية كما تم في المغرب إعلان لجنة مصالحة وتعويض البشر.. والقيام بتحول ديمقراطي، كم ستبقى مؤسسة الجيش لها طابع فئوي من حيث تعدادها نسبة لعدد السكان في سورية وكم سيبقى قادتها من نفس الشريحة السورية؟ أعتقد زمنا طويلا تكون فيه سورية قد تأهلت لأن تكون دولة ديمقراطية حقيقية عندها لم يعد مهما هوية المتنفذين المؤهلين ـ نقصد هويتهم الماقبل وطنية ـ لهذا الأمر في أية مؤسسة من مؤسسات الدولة سواء الجيش أم غيره. ويبقى ما نقوله في الختام هو عبارة عن رأي نرجو أن نجد دوما من يصحح لنا.
غسان المفلح
التعليقات