بلا شك هو الشعب اللبناني الذي كره على مضض التواطن في أرضه وعشق المهجر ليعيش مرغما لا طوعاً. وتمرس جيداً فنون التعامل والاندماج مع مجتمعات جيرانه والدول الإقليمية والعالمية أيضاً، والحقيقة أن لبنانيي المهجر يحبون العودة إلى لبنان ومعروف عن اللبنانيين منذ القدم حبهم للترحال الذي غدا جزء من هويتهم الثقافية وأما الجزء الآخر المرتبط بثقافة الوطن الأم ففيه ذاكرة مختزنة للأطباق اللبنانية الشهيرة وجلسة الكأس الأبيض مع مقبلاته.
لقد كان لبنان الستينات، بلداً ليبرالياً منفتحاً على جميع الأفكار والتيارات. وهذا ما جعله قبلة مفكرين وشعراء وسياسيين لجأوا إليه من جميع البلدان العربية دون استثناء. مشكلة لبنان انه بقي ليبرالياً ولم يصبح ديمقراطياً!

هناك قضية إنسانية تلقي بظلالها على الواقع اللبناني الطائفي الذي يهجره أهله لأقل الأسباب ويتمسك به من أجبره التهجير على الارتماء في حضن لبنان الدافئ. وبحب لا يقبل المساومة لأرمن لبنان.. وإذا ما أخذنا من تواجدهم مثالا على إختلال طبيعة التعامل بين كمّ بشري ينتمي تاريخياً وثقافياً ودينياً للجغرافيا العربية واللبنانية مثل اللاجئين الفلسطينيين وبين الأخوة الأرمن الذين إلتجؤوا إلى لبنان هربا من حالة الاضطهاد التي تعرضوا لها... والأرمن اليوم ما زالوا يتحدثون لغتهم ويرتبطون أسريا بأهاليهم في أرمينيا في ذات الوقت الذي ينخرطون فيه في الحياة السياسية والاقتصادية اللبنانية... وعليه لا نفهم كيف يجري تبرير عدم منح الفلسطينيين حقوقا مدنية وسياسية ليعيشوا حياة كريمة بانتظار تطبيق حق العودة؟


دولة الطوائف هذه لما لا تخرج من عباءة الليبرالية التابعة للمخطط الأجنبي! وتندرج تحت مظلة المواطنة العلمانية؟ أعتقد أن النموذج التركي هو الحل، ولنبحث عن أتاتورك لبناني يقود العلمانية المطلقة وينهي التبعية لرموز الطوائف.

عطفاً، التوازن الطائفي الذي كان أساس الميثاق الوطني، والهادف إلى أن تطمئن جميع طوائف البلد على مصيرها ومستوى مشاركتها في السلطة، لم يترافق معه جدول زمني يحدد تاريخ إنتهاء الصلاحية كي ينتقل لبنان من الليبرالية الى الديمقراطية وينتقل الفرد اللبناني من إبن الطائفة إلى مرتبة المواطن.
ولهذا بقي لبنان الطوائف ملكاً لعائلات تقليدية مدعومة من المؤسسات الدينية همها أن تحافظ على استمرارها وضمانة نفوذها السياسي والإقتصادي. وحصلت المؤسسات الدينية، في غياب قوانين مدنية للأحوال الشخصية على حق التصرف بحياة المواطن من الولادة إلى الزواج والموت وحتى ما بعد الإنتقال إلى العالم الآخر. ومن لا يعجبه الوضع فليذهب إلى قبرص!

ولا أدري لماذا ينساق قلمي كي يصف أنموذجاً من زعماء الطوائف؟ فقد انساق جنبلاط مع الأكثرية الحاكمة (المعارضة سابقاً) وبالغ في استعداء سوريا، وجعل البعض جنبلاط زعيماً للموالاة التي أصبحت تجتمع في بيته لتحقيق مأربها في التحريض على سوريا محليا ودولياً، وأوهموه بأنه الزعيم المرشح للبنان بعد ثورة الاستقلال وخروج السوري، وقد حاول جنبلاط التنسيق مع ميشال عون فزاره في باريس، ولكن على ما يبدو الزيارة لم تكن موفقة، ولم تحقق النجاح المنتظر، وبدل أن تُسفر عن توافق وتحالف وتصفية أجواء يبدو أنها عكرت ووترت الأجواء، ولم يمض وقت طويل حتى اشتعلت حرب التصريحات العدائية بين جنبلاط وعون بل بين الدروز والموارنة، بعد أن شعر جنبلاط أن عون يسحب بساط المعارضة (في حينه) من تحت قدميه ويسرق منه الأضواء، ويجمع الموارنة تحت مظلته السياسية، وهكذا يكون جنبلاط والموالاة السنية التي جُرت لخندق العداء مع سوريا قد خرجوا جميعاً بلا نتيجة تحسب لصالحهم، وفاز الإسرائيليون والموارنة بالضربة القاضية على سوريا وعلى حلفاء سوريا السابقين، فخرجت سوريا من لبنان وانكشفت الخاصرة السورية من جهة لبنان لإسرائيل، وكسب الموالاة من الموارنة الجولة، إذ عادوا إلى الواجهة معززين بالدعمين الأميركي والإسرائيلي، وبدور يعضد الدور الإسرائيلي في المنطقة، في إطار ما يسمى بمشروع الشرق الأوسط الكبير، والرؤى الأميركية للبننة المنطقة quot;وعرقنتهاquot; وبلقنتها، وتفكيكها إلى نحل ومذاهب وقوميات متناحرة، تتفجر بينها صراعات دامية وهذا هو العراق نموذجاً!!


ولكن حرب تموز الأخيرة أفشلت المشروع الأميركي من ناحية ولكنها أفقدت حزب الله متاخمة الإسرائيليين على الحدود للقيام في عمليات المقاومة المعهودة. وهنا أعتقد أن جنبلاط الزعيم ومشروع 14 شباط صبّ بشكل إيجابي في صالح حزب الله ليتحول بالفعل إلى رفيق الكتف بالكتف مع الجيش اللبناني لحماية الأراضي اللبنانية من الغول الإسرائيلي. هذه باعتقادي هي الخطوة الأولي في طريق تأسيس مشاركة الحزب لباقي الطيف السياسي في لبنان لقرار الحرب والسلم مع إسرائيل. وهنا يأتي دور قرار الدول العربية في العمل على إجبار إسرائيل على تفعيل المبادرة العربية للسلام على أساس إرجاع الأراضي مقابل التطبيع. ولا ننسى أن أتاتورك قد بدأ بالفعل خطوته الأولى من خلال تفاهم حزب الله مع عون في النقاط العشر.
عاش لبنان.. عاشت المواطنة.. ولتلتحق باقي الطوائف بالركب.. موالاة ومعارضة.

سالم أيوب

كاتب ومحلل سياسي

[email protected]