أنور البني ضحية يوداس قبل أن يكون ضحية بيلاتوس (1)!

شكل الحكم الصادر بحق المحامي أنور البني صدمة للكثيرين داخل سوريا وخارجها. فخلال أقل من يومين على صدور الحكم، كانت وكالات الأنباء تحمل العشرات من بيانات الاستنكار والشجب من مختلف الأوساط والمنظمات المحلية والإقليمية والدولية. ولم يتأخر جورج بوش نفسه عن ذلك. فهو مصاب بالإكتئاب لما آلت إليه قضية الديمقراطية وحقوق الإنسان في سوريا، لأنه لم يجر حلها على طريقته العراقية!


توحي البيانات الصادرة، وبغض النظر عن النوايا الطيبة لأصحابها، بأنهم فوجئوا بالحكم الصادر بحق البني، كما لو أن الخبر يتعلق بمحاكمة كاتب في إحدى الدول الغربية على مقال كتبه، أو كما لو أن مئات المعتقلين السوريين لم يتعرضوا للإبادة من قبل في سجون الديكتاتورية السورية، أو أن المئات لم يرزحوا في الزنازين لعشرات السنين دون أن يعرفوا حتى الآن على وجه الضبط.. لماذا حصل ذلك معهم ! وقد أخبرني أحد الزملاء الذي أتصل بزوجته السيدة راغدة عيسى يوم أمس لإعلان تضامنه معها، بأنها الإنسان الوحيد ربما الذي لم يصدم بالحكم الصادر ضد زوجها. quot; وهل كنت تعتقد أن الأمر سيكون أفضل من ذلك، أو كنت تنتظر أن يصدروا حكم براءة بحقه quot; !؟ هذا ما قالته، مع ضحكة مليئة بالسخرية والمرارة!


منذ أن اعتقل المحامي أنور البني وأنا أحاول الكتابة عنه. ولا أخفيكم أن quot; قرابتي الجغرافية quot; به باعتبار أن كلينا ينحدر من غيرنيكا سوريا ( حماه)، ولندع quot; قرابتنا الدينية quot; كمسيحيين جانبا، فكلانا غير منتم دينيا، كانت الدافع الخفي في اللاوعي للاهتمام به وبأسرته. وفي حالة مثل حالتي، حيث يشكل لي إعادة اكتشاف المدينة التي غادرتها في مقتل العمر محرضا أقوى، يختلط الدافع العاطفي الخاص بالموضوعي العام، ولا يعد بالإمكان فصل الذات عن الآخر.


كان ثمة دافع آخر للاهتمام به وهو الطلب الذي وجهته لي السيدة ليندا مارزوتشيني Linda Marzocchini من أسبوعية Il Nuovoالإيطالية لكتابة تحقيق عن تجربة أسرة البني في سوريا، على الصعيد الإنساني والسياسي، باعتبارها عينة نموذجية لمأساة الأسرة السورية في ظل الديكتاتورية. وفي مرحلة من البحث الذي تتطلبه كتابة مقال أو تحقيق عن قضية لم يسبق لك أن عرفتها عن قرب أو عايشتها، فكرت حتى بإنتاج فيلم وثائقي عن هذه الأسرة، وهو ميدان عملي الأساسي والمفضل، وبحثت فعلا عن تمويل للمشروع. ولا زلت. فثمة مادة درامية يمكنك أن تغرف منها بلا حدود، ومحال أن تستطيع تكثيفها في مقال أو تحقيق. ومع ذلك سأكتفي بـ quot; مشهد quot; واحد مما يمكن أن نطلق عليه quot; تغريبة آل البني quot; !


أكثر ما لفت انتباهي وأنا أبحث في سيرة هذه العائلة، وعلى الأخص سيرة أنور، هو الأصالة. وأنا لا أتحدث هنا عن الأصالة originalitagrave; بمعناها الدارج والمبتذل، وإنما بالمعنى النقيض لمفهوم المحاكاة imitazione. و فقدان الأصالة في جيل المعارضة السورية ما بعد الأسد الأب ربما كان كعب أخيل هذه المعارضة أكثر من شيء آخر. فما إن رحل الأسد الأب، الذي كان يشكل مصدر رعب يختلط بالقدسية بالنسبة للقطاعات الأوسع من المجتمع السياسي والثقافي السوري، حتى اندلق إلى ساحة quot; المعارضة quot; سيل من البشر الذين لا جذور نضالية لهم، بل إن معظمهم كان يعيش على مائدة السلطة أو ما يتساقط من فتات تحت أرجلها. وليس نائب الرئيس السابق عبد الحليم خدام إلا التجلي الأوضح لها. فالأمر كان أشبه بسد ترابي ينفجر فجأة بعد طول احتباس وركود، فيتحول طوفانه إلى سيل من الوحل المشبع بالطحالب والأشنيات، الذي يصعب استخلاص الماء الصافي منه. يمكن أن تأخذ أي بيان لا على التعيين مما يصدر عن المنظمات والأحزاب السورية التي تكاثرت كما تتكاثر الأرانب، ومن ضمنها ما صدر بمناسبة الحكم على البني، لتكتشف هذه الحقيقة الكاريكاتورية المفجعة، ليس من حيث تعبيرها عن الصدمة وحسب، بل من حيث ابتذالها الرخيص من ناحية محاججتها الحقوفية والقانونية حول ما إذا كان الحكم متناقضا مع الدستور وقانون العقوبات أم لا !؟ بتعبير آخر : إن الدستور وقانون العقوبات لا غبار عليهما، ولكن المشكلة في القضاء وتبعيته للسلطة التنفيذية وأجهزة المخابرات. وما إن ترفع السلطة ومخابراتها يديها عن رقبة القضاء، وتكف عن التدخل في شؤونه، حتى يصبح الأمر في منتهى quot; الأبهة quot; ! ولكن هؤلاء لم يخبرونا، ولايستطيعون، كيف ولماذا ترفع السلطة ومخابراتها يديها عن رقبة القضاء، وإن هما فعلتا ذلك ماذا سيتبقى منهما !؟


هذه النمط من التفكير ليس وليد الانتهازية السياسية وحسب، ولكنه أيضا إحدى نتائج تعميم الخرافة الهيغلية ـ الغرامشوية المتعلقة بـ quot; المجتمع المدني quot; في المجتمع السوري بعد موت مؤسس النظام حافظ الأسد، والتي يترتب عليها فصل كامل بين السلطة والدولة.. بين النظام ورأسه. وليس من باب المصادفة أبدا أن كل من روج لهذه المقولة، وبلا استثناء، كان منخرطا بشكل أو بآخر في عملية الترويج لـ quot; البرنامج الإصلاحي quot; للرئيس الوريث. بل إن بعضهم وصل به الخرف إلى حد التعويل على quot; ضباط المخابرات الإصلاحيين quot; من أجل إحداث التغيير ! وحدهم الذين كانوا يدركون طبيعة النظام، وآلية عمله، لم يسقطوا في هذا quot;المبغى الثقافي quot; Bordello della cultura ! ومثلما قاد غرامشي رفاقه إلى الهلاك في أتون الفاشية عبر خرافة quot; الهيمنة الثقافية quot; التي يجب إنجازها قبل التفكير بالهيمنة السياسية، وعبر حكاية quot; الاستيلاء على الدولة.. قطعة.. قطعة quot;، كما لو أنها ماكينة، على حد التعبير الساخر للوي ألتوسير، قاد رواد quot; المجتمع المدني quot; السوريون الناس إلى وهم المنتديات و quot; ربيع دمشق quot;. ومرة أخرى ليست مصادفة أن بعض منظري quot; ربيع دمشق quot; كان يتخيل له، بسبب من انتهازيته أو خرفه، أنه بالإمكان إحداث التغيير الديمقراطي من خلال المساهمة في اللجنة الفكرية لحزب السلطة، بل وحتى من خلال quot; الاستيلاء الثقافيquot; أو quot; الهيمنة الثقافية quot; على رئيس فرع المخابرات هذا أو ذاك ! وفي الطريق إلى ذلك، لا بأس من التنديد ببعض المعارضين quot; الراديكاليين quot; الذي تصدوا لهذا الابتذال، وتهشيم سمعتهم بالشتائم المأجورة من قبل.. ضباط المخابرات quot; الإصلاحيين quot; أنفسهم ! كما أنه ليس بمحض المصادفة أن هؤلاء أنفسهم، وليس غيرهم، وصل بهم الأمر إلى حد الرهان على زعماء المافيات والقتلة الطائفيين اللبنانيين من أجل..دعم التغيير الديمقراطي في سوريا!


أنور البني أحد أولئك القلائل الذين لم يسقطوا في هذا الوهم، أو يتلوثوا بهكذا ابتذال. كان يدرك منذ اللحظة الأولى أن كل ما حصل بعد موت مؤسس النظام من مظاهر quot; الانفراجquot; لم يكن أكثر من فقاعة بلا أساس، من العبث أن يعول عليها. في رسالة إلى موكله نزار نيوف، المعروف جيدا لدى قراء هذه المجلة (2)، يقول أنور البني صيف العام 2004quot; ليس لي أي اعتراض على الطريقة التي تهشم بها وجه السلطة، ولا على فتح هذه الملفات التي تفتحها. مقالات الشتائم التي ينشرها هؤلاء سببها أنهم أجبن من أن يفكروا بها حتى في غرف نومهم. إنهم حسب تعبيرك الظريف لا يزالون يراهنون على صنع المرتديلا اللذيذة من لحم الجيفة. وسيدفعون ثمن ذلك قبل الآخرين حين تفرغ السلطة من عصرهم إلى آخر نقطة. إنهم يلعبون دور يوداس الإسخريوطي وهم يدرون أو لا يدرون. لكل مسيحية يوداصها الخاص بها، مع فارق واحد أن يوداس الأصيل كان فيه من الضمير ما جعله ينتحر بعد اكتشاف خيانته، أما الإسخريوطيون المقلدون فلا ضمائر لهم لتستيقظ. فلا تبتئس يا صديقي quot;.


إصراره على تبني مواقف موكله والدفاع عنها، سواء أمام محاكم دمشق أم محاكم باريس، لم تجلب له غضب السلطة فقط، بل وغضب مراهقي المجتمع المدني أيضا. هكذا، وبكل بساطة، أو وقاحة إذا شئتم، يوضع ذات يوم بين خيارين لا ثالث لهما من قبل أحد الأصوليين الإسلاميين quot; المدافعين عن حقوق الإنسان quot; ( وهذه فانتازيا غير مسبوقة أيضا : أصولي إسلامي أعماه الحقد المذهبي يدافع عن حقوق الإنسان !) : إما أن تتخلى عن موكلك quot; العلوي quot; وأسرته وتتنازل عن وكالته لك، وإما أن تغادر هذه الجمعية.. المدافعة عن حقوق الإنسان!


ليس أنور البني ممن يترددون في الاختيار حين يوضعون أمام خيارات من هذا النوع. ضميره يعمل على مدار الساعة ودون توقف. لا يكل ولا يمل، مثل نواعير حماه التي يغذيها نهر quot; عاصquot; لا يقوى أحد على ترويضه. ولهذا تبع ضميره دون تردد.. وظل يتبعه.. ويتبعه.. ويتبعه..إلى أن قاده إلى نطع بيلاطس، فيما حاخامات المجتمع المدني يهتفون : دمه علينا.. دمه علينا !
دمه لنا، ولن نتبرأ منه. وعلى هذا النوع من الدماء فقط، وليس على صخرة بطرس الذي أنكر معلمه ثلاثا قبل صياح الديك،.. نبني كنيسة قيامتنا!

ناديا قصّار

دبج

(*) ـ إيطالية من أصل سوري
نابولي / إيطاليا
[email protected]
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ـ كتب هذا المقال بالإيطالية في الأصل ويصدر في العدد القادم من مجلة الفرع الإيطالي للحركة الراديكالية العالمية Il Nuovo تحت عنوان : Anwar al-Bunni egrave; la vittima di Giuda piuttosto che essere una vittima di Pilatus. وهذه ترجمة منقحة قليلا.
(2) ـ إشارة إلى مقابلة أجرتها معه محررة المجلة ليندا مارزوتشيني في العام 2002 تحت عنوان quot; سلمان رشدي السوريquot;، المنشورة على هذا الرابــط
http://209.85.129.104/search?q=cache:wmv5ZtX-LtoJ:web.radicalparty.org/pressreview/print_right.php%3Ffunc%3Ddetail%26par%3D2571+Linda+Marzocchini،+nizar+nayoufamp;hl=framp;ct=clnkamp;cd=1amp;gl=fr