بفعل الاستطراد ربما أو من قبيل الجهل على الأغلب يكثر المحللون السياسيون والاقتصاديون اليوم من استخدام تعبير quot;اقتصاد السوقquot; بكثير من الاستخفاف والسوقية. يستخدمونه لتحديد طبيعة النظام الاقتصادي السائد اليوم في البلدان الرأسمالية سابقاً ويمتد هذا التحديد ليشمل النظام الرأسمالي الكلاسيكي. ثمة قصور فاضح في مثل هذه الاستهانة باستخدام تعبير quot;إقتصاد السوقquot; بحكم العادة والاستطراد ودون تدقيق في المعاني التي يحملها بمقتضيات مبادئ علم الإقتصاد.

المعنى العلمي الدقيق لِ quot; اقتصاد السوق quot; هو ذلك البنيان الإقتصادي الذي تبنيه قوى السوق، أو يُبنى بالاستجابة التامة لمفاعيل ميكانزمات السوق الحرّة المنفتحة بالكامل حصراً. وما لم يكن لدينا مفهوم محدد وواضح عن السوق الحرة المنفتحة بالكامل وعن قواها وعزومها ومفاعيلها فلن يكون لدينا حالتئذٍ تصور حقيقي ودقيق للبنيان الاقتصادي المسمّى quot;إقتصاد السوقquot;. فأية سوق تلك التي ينتسب إليها مثل هذا البنيان الإقتصادي؟ إنها السوق الحرة والمنفتحة بالكامل، السوق التي لا تخضع لأية قوانين خارجة عن قوانينها وعن قانونها العام قانون القيمة الرأسمالية، سوق تستقبل كافة السلع لتكتسب صنميتها (fetishism ) حيث تشتبك مع كافة السلع الأخرى المعروضة في السوق بعلاقة ضمنية قيَميّة وتتعين بالتالي قيمتها التبادلية (Exchange Value)، السوق التي توفر منافسة حرة بين جميع السلع المتواجدة فيها، السوق التي يتعادل فيها العرض (Supply) مع الطلب (Demand) وتتكفل بالربط الضمني الآلي بين القيمة التبادلية للسلعة من جهة وقيمتها الإستعمالية (Use Value)من جهة أخرى، تلك السوق التي يدخل إليها المواطنون متحررين من كل شيء ما عدا الحاجة إلى البضاعة التي يقصدون شراءها وفي جيوبهم النقد المكافئ لتلك البضاعة. تلك السوق بكل هذه الخصائص هي السوق الوحيدة التي يمكن أن ننسب إليها بنياناً إقتصادياً يسمّى quot; إقتصاد السوق quot;.

السوق بكل هذه الخصائص والأوصاف كاملة لم تقم على الإطلاق عبر كل المرحلة الرأسمالية في التاريخ. فالاحتكار (Monopoly) الذي من شأنه أن يلغي معادلة العرض بالطلب ويعطل آلية التسعير في السوق (Market Price) ويغيّب تماماً المعادلة المستترة بين القيمة الإستعمالية والقيمة التبادلية، مثل هذا الاحتكار، الذي يجنح إليه دائماً نظام الإنتاج الرأسمالي بقوة، كانت قد عرفته السوق قبل تفتح براعم الرأسمالية في القرن السادس عشر. ولدى ازدهار الصناعات اليدوية في المدن البورجوازية في أوروبا في القرنين السادس عشر والسابع عشر لعبت الحماية الجمركية دوراً مماثلاً لدور الاحتكار وأغلقت سلطات تلك المدن أسواقها على صناعاتها الخاصة. لم تكن السوق الرأسمالية حرة ومنفتحة وتعمل دون قيود منذ ظهورها وحتى انهيارها إثر انهيار النظام الرأسمالي في سبعينيات القرن الماضي و quot;إعلان رامبوييهquot; في 17 نوفمبر 1975.

بالرغم من كل هذه المؤثرات الفعلية المعاكسة لعمل السوق الحرة المنفتحة، ومؤثرات أخرى غيرها من مثل هبوط القوة الشرائية لدى المتسوقين ونشاط التنظيمات العمالية والنقابات في الإضرابات، بالرغم من كل هذا فقد استطاعت آليات السوق أن تشق طريقها، إن بسهولة أحياناً وإن بصعوبة أحياناً أخرى، وتسبغ على كافة السلع المعروضة فيها قواها الصنمية وتحدد بالتالي قيمتها التبادلية فتتحول إلى نقود، كما أنها حافظت بشكل أو بآخر على شيء من معادلة العرض بالطلب رغم تعثرها دورياً بأزمة كساد كتلك الأزمة الحادة عام 1929 والأخرى القاتلة عام 1971. مع كل ذلك يتوجب الإعتراف بالعلاقة الوثيقة بين نظام الإنتاج الرأسمالي بكل تشوهاته بما فيها فوضى الإنتاج من طرف وبين السوق بكل ميكانزماتها المقيدة بفقدان الحرية والانفتاح من طرف آخر. وبالتالي فإن السوق لا تعمل إلا وفق القانون العام للقيمة الرأسمالية كما أن النظام الرأسمالي لا يستطيع الإستمرار دون أن يدخل السوق بشكل بضائع ويخرج منها بشكل نقد. السوق هي حقاً بمثابة الدورة الدموية لجسم النظام الرأسمالي.

لعل جيل الستينيات يتذكر أن تعبير quot; إقتصاد السوق quot; لم يذكر من قبل المحللين السياسيين والاقتصاديين قبل الستينيات إلا لماما. وربما قليلون منهم عرفوا الأسباب الكامنة وراء إنطلاق صيحة quot; إقتصاد السوق quot; فجأة ودون سابق إنذار لتغمر أسماع العالم في مطالع الستينيات. في العام 1959 طلب خروتشوف عقد مؤتمر عام استثنائي للحزب الشيوعي السوفييتي كي يطرح عليه خطته السباعية في التنمية الإشتراكية. في العام 61 أي بعد عامين من تطبيق الخطة السباعية، وهي أول خطة سباعية وليست خماسية كما جرت العادة، تبين أن خطة خروتشوف التي أرادها أن تكون متميزة ومختلفة، تبيّن أنها تتعثر ويعتريها فشل فاضح، فما كان من خروتشوف إلا أن لجأ إلى أحد الإقتصاديين الروس المعارض أصلاً للإشتراكية (!!) علّه يجد مخرجاً يتيح له تحاشي الفشل الفاضح. كانت نصيحة هذا الإقتصادي الكاره للإشتراكية هي أن يعتمد خروتشوف في إدارة الإقتصاد الوطني مبدأ quot; المؤسسة الإنتاجية المكتفية بذاتها quot;. quot; المؤسسة الإنتاجية المكتفية بذاتها quot; تعبير حقوقي مقبول في المجتمعات الرأسمالية وما قبل الإشتراكية. أما في المجتمع الإشتراكي فإن القيمة التبادلية للسلعة تنفصل إلى حد بعيد عن قيمتها الإستعمالية إذ ليس هناك من سوق تبادلية في المجتمع الإشتراكي ولا تدخل السلع محلات التوزيع كونها محلات عرض لتكتسي نفوذها كأصنام. ومن هنا بالضبط فإن بسط مفهوم quot; المؤسسة المكتفية ذاتياًquot; وتنفيذه في ترسيم التخطيط المركزي الذي هو الأداة الرئيسة في التنمية الإشتراكية يتطلب أساساً إقامة سوق حرة يتم من خلالها تحديد القيمة التبادلية لكافة السلع، وهي القيمة التي بدونها لا يمكن لأية مؤسسة إنتاجية أن تتكفل بذاتها ـ كي تتحدد نفقاتها لا بدّ من إحتساب قيمة إنتاجها التبادلية والتي تحتسب منسوبة إلى القيمة الكليّة للإنتاج الوطني العام. كل هذا لا يتم إلا من خلال سوق رأسمالية بالطبع يطرح فيها كل الإنتاج القومي برمته.

إقامة سوق رأسمالية في النظام الإشتراكي بعد أن دخل العقد الخامس من العمر لم يكن ممكناّ في حال من الأحوال. ولذلك فإن دعوى خروتشوف ومستشاره ذي الميول الرأسمالية حول quot; المؤسسة المكتفية ذاتياً quot; لم ينجم عنها، خلافاً لما يعتقد الكثيرون، سوى قطع العلاقة الطبيعية بين العامل من جهة وإنتاجه من جهة أخرى وذلك بسبب الغياب الكلّي للسوق الكلاسيكية، أي أن ما يحصل عليه العامل لقاء شغله لا علاقة له بما ينتج. جرت العادة في الإتحاد السوفياتي أن تقرر القيادة المركزية للإقتصاد الوطني رفع أجور العمال بالإضافة إلى خفض أسعار السلع الإستهلاكية على الصعيد الوطني بعد الإنتهاء من كل برنامج خماسي يحقق أهدافه التنموية، وجميعها تجاوزت الأهداف، أما لدى انتهاء برنامج خروتشوف السباعي إلى الفشل الذريع فلم تتحسن أحوال العمال بل العكس كانت النتيجة. في عهد بريجينيف، وهو الأداة الطيعة بيد العسكر والمؤتمن على استكمال الردّة التي بدأها خروتشوف، تفشى بين العمال التهرب من مراكز العمل كصيغة من صيغ الإحتجاج على الإدارة غير الإشتراكية التي أدارت ظهرها للعمال، ثم كان انغماس الطبقة العاملة في تناول الكحول تعبيراً عن اليأس وغياب الوعي الطبقي خاصة وأنه كانت قد جرت تصفية البلاشفة في الحزب والذين بدورهم لم يقوموا بما كان عليهم أن يقوموا به وتقاعسوا في الوقوف بوجه المرتدين، خروتشوف وعصابته، بدءاً من مؤتمر الحزب العشرين في العام 1956. إنقطاع العلاقة الوثيقة بين الطبقة العاملة من طرف والإنتاج من طرف آخر واجهه يوري أندروبوف لدى خلافته لبريجينيف في العام 1982 بملاحقة الشرطة للعمال الهاربين من مراكز العمل وإعادتهم إليها بالقوة بدل أن ينظر في أسباب التهرب. وكان ذلك نذيراً قاطعاً لفشل المشروع اللينيني في الثورة الاشتراكية.

في العام 1961 كان صعباً على خروتشوف، وقد عُرف بالغباء، أن يدرك بأن استشارة مستشاره، نصير النظام الرأسمالي، حول quot;المؤسسة الإنتاجية المكتفية ذاتياًquot;، والتي لا يمكن تحقيقها إلاّ من خلال السوق الكلاسيكية غير المتواجدة أصلاً في النظام الإشتراكي، إنما أريد منها سد طريق عبور الإشتراكية. بعد أن تلاشت طويلاً عادت صرخة quot;إقتصاد السوقquot; تتعالى مرة أخرى في العام 86 إثر صعود غورباتشوف إلى قمة السلطة وهو إبن لخروتشوف بالمعمودية. ويصعب الإفتراض أن غورباتشوف أيضاً لم يكن يدرك أن صرخة quot;إقتصاد السوقquot; لم يُرد بها سوى التصفية النهائية لما تبقى من قواعد إشتراكية. ما يتوجب التوقف عنده طويلاً هو أن صيحة quot;إقتصاد السوقquot; كانت عنوان النكستين اللتين تسببتا بانهيار الإشتراكية اللينينية، الأولى بقيادة خروتشوف في العام 61 والثانية بقيادة غورباتشوف في العام 86. 61 و 86 هما عامان أسودان في تاريخ الثورة الإشتراكية.

ما يميّز الإشتراكية الحقيقية عن الإشتراكية الزائفة هو العلاقة التي تربط السلعة بقيمتها التبادلية من جهة. في الإشتراكية الحقيقية يتم تداول السلعة بفك هذا الرابط ودون اعتبار لقيمتها الرأسمالية التبادلية بصورة عامة خلافاً لما يجري في الإشتراكية الزائفة حيث يتم تداول كافة السلع تبعاً لقيمتها التبادلية. وتبعاً لذلك تنعدم السوق في الإشتراكية العلمية الماركسية في حين لا تختفي أية أداة من أدواتها في الإشتراكية الزائفة. حقيقة الأمر أن النظام الرأسمالي لم يتجاوز مرحلة الطفولة قبل أن يقوم هو نفسه بإفساد السوق رغم أنها الأساس الذي قام عليه، بل إن السوق الرأسمالية لم تكن يوماً منفتحة تماماً كما يفترض فيها أن تكون. أما السوق اليوم فلم يبق شيء يذكر من آلياتها الكلاسيكية وشروطها المذكورة أعلاه.

انتهت ثورة التحرر الوطني في العالم الثالث، 1946 ـ 1972، إلى إغلاق أسواقه وهي الأسواق الكلاسيكية أمام منتجات مراكز الرأسمالية الإمبريالية الدولية، وأمسكت، نتيجة ذلك، أزمة قاتلة بخناق النظام الرأسمالي العالمي في العام 1971. إنعكس ذلك في الإضطرابات الكبرى في أسواق النقد العالمية خلال مستهل السبعينيات 1971 و 1973، وفي الإجتماع المفصلي لأول مؤتمر قمة للدول الخمس الأغنى (G5) والإعلان الصادر عنه في 17 نوفمبر 1975، المعروف باسم إعلان رامبوييه (Declaration of Rambouillet). كل ألإجراءات التي أعلن ذلك المؤتمر أنه سيتخذها على صعيد العالم، وخاصة غمر الدول المستقلة حديثاً بالمال السهل عبر الإستدانة الميسرة، لم تفلح في إنقاذ النظام الرأسمالي من الإنهيار فترتب بالضرورة على هذه المراكز الرأسمالية، الولايات المتحدة، اليابان، بريطانيا، فرنسا وألمانيا، أن تتحول من الإنتاج السلعي الرأسمالي إلى الإنتاج الخدمي الفردي (Individual Production) اللارأسمالي الذي يعجز بطبيعته عن أن يقيم أسواق عرض صنمية وتغيب عنه كل المؤشرات الدالة على القيمة التبادلية ـ وهذه مسألة جوهرية وفي غاية الأهمية لدى النظر في طبيعة النظام الدولي القائم اليوم. كان أخطر قرارات أول مؤتمر قمة للدول الصناعية الخمس الأغنى في رامبوييه ـ G5 وفيما بعدG7 ـ هو ضمان الدول الخمسة متضامنة أسعار صرف عملاتها في أسواق النقد العالمية. ومثل هذا الضمان يعني تماماً فك العلاقة بين عملات هذه الدول وقيمتها الفعلية سواء من خلال الغطاء الذهبي أو من خلال القيمة الكلية للإنتاج القومي؛ وهذا يعني تماماً تمكين هذه الدول من سرقة ثروات العالم إما عن طريق شرائها أو استدانتها مقابل عملات مفرغة من كل قيمة حقيقية ولا تتكفل بقيمتها أية جهة ولا حتى الدولة ذات العلاقة. ضمانة الدول الخمس متضامنة للقيمة التبادلية لعملاتها إنما هو قرار سياسي لا يستند إلى أية ضمانات حقيقية وفعلية المحددة بالذهب بموجب معاهدة بريتونوود (Brittonwood) أو بالإنتاج القومي بعد خروج الولايات المتحدة من معاهدة بريتونوود في العام 1971. فكيف لعاقل أن يقبل بضمانة تقول أن الإنتاج القومي في فرنسا مثلاً هو ضمانة حقيقية للدولار الأميركي؟!! إنما هذا خبل وخداع ذهب إليه القادة الخمس الأغنى في العالم ليقيموا بذلك أساساً وهمياً وخادعاً للنظام العالمي القائم اليوم.

إجراءات إعلان رامبوييه وتحولات أنظمة الإنتاج في الدول الرأسمالية الكلاسيكية من الإنتاج السلعي إلى الإنتاج الخدمي نسفت السوق الرأسمالية بكل آلياتها وعناصرها الأساسية المعروفة، فلا السوق سوقاً ولا السلع سلعاً ولا النقد نقداً. غدا النقد سندات كاذبة تصدرها جهات غير مليئة، وغدت السلع حاجيات تحاصرها الخدمات من كل الإتجاهات، وتقزّمت السوق وهُجرت. مكوّنات النظام الرأسمالي الثلاثة، السلعة والنقد والسوق، تبدلت فيما بعد 1975 بمخلوقات أخرى غريبة الخلقة والسلوك، مخلوقات استطاعت أن تهدم النظام الرأسمالي بكل شموخه لتقيم علاقات غير سوّية، بين الدول كما بين الأفراد، وهياكل اجتماعية شائهة يغلب عليها لون واحد هو لون الطبقة التي تنتج الخدمات وهي تحديداً الطبقة الوسطى. انكمشت الطبقة العاملة انكماشاً حدّياً وهربت الطبقة الرأسمالية من حصونها الكلاسيكية إلى الأطراف فيما سمّي بالعولمة وأصبحت غريبة في غير مواطنها.

ما ينتظر عالم اليوم..

في المانيفيستو الصادر في العام 1848 رأى كارل ماركس وفردريك إنجلز أن النظام الرأسمالي سينفجر وشيكاً بسبب التناقض الرئيسي فيه والذي يتمثل بعمومية فعل الإنتاج مقابل خصوصية إمتلاك الإنتاج ويتجلى ذلك بالتناقض بين العمال الذين ينتجون جماعة والرأسماليين الذين يمتلكون الإنتاج وأدوات الإنتاج فرادى. ذلك التناقض الرئيس في النظام الرأسمالي لم يعد التناقض الرئيس اليوم، بعد قرن ونصف القرن، وذلك بسبب المشروع اللينيني في الحلقة الضعيفة وخيانة الحزب quot;الشيوعيquot; السوفياتي بقيادة خروتشوف للثورة. ومن نافلة القول أن الثورة الإشتراكية لم تعد في أجندة التاريخ المفتوحة حالياً طالما أن التناقض رأسماليين/عمال لم يعد اللاعب الرئيس على المسرح العالمي. ما عساه إذاً يكون التناقض الرئيس اللاعب على المسرح العالمي اليوم؟

ما يجب أن يتوقف المرء عنده طويلاً وبعمق هو أن الإنسان في المجتمعات الحديثة يعتمد في معاشه على استهلاك الخدمات بشكل واسع. تقول الإحصاءات المتاحة اليوم أن المجتمعات الحديثة تستهلك من الخدمات ضعف أو ثلاثة أضعاف ما تستهلك من السلع. ويطرق أسماعنا بقوة قول أحد زعماء quot;الاشتراكية الدوليةquot; ـ وهي لعجبنا المنظمة المعروفة بكثرة التنظير في معارضة الإشتراكية! ـ بأن إنسان العصر ليس بحاجة إلى البنطال والحذاء بمقدار حاجته إلى التعلّم والرياضة والموسيقى. قد يكون هذا صحيحاً بصورة من الصور لكن القضية التي تؤسس لما يبغي هذا الزعيم الخلوص إليه هي.. هل يجهد المجتمع في إنتاج الخدمات المطلوبة أضعاف جهوده في إنتاج السلع؟؟ وهل يتكلف في إنتاج السلع مثلما يتكلف في إنتاج الخدمات؟؟ وما الدور الذي تلعبه الخدمات في حياة المجتمع مقابل دور السلع؟؟ الإجابات الصحيحة الكاملة على هذه الأسئلة الثلاث هي ما يقطع في أهلية الفكر السياسي والبحوث الإقتصادية والإجتماعية في عالم اليوم، وما عدا ذلك إنما هو الزبد.

الولايات المتحدة تقول أن كلفة إنتاجها للخدمات تساوي أربعة أضعاف كلفة إنتاجها للسلع، وبريطانيا وفرنسا تقولان أن كلفة إنتاجهما للخدمات تساوي ثلاثة أضعاف كلفة إنتاج السلع، أما في ألمانيا واليابان فهي تساوي الضعفين. ثمة ما يدفع بنا إلى الطعن بهذه المعطيات. صحيح أن الطبقة الوسطى في هذه البلدان والتي تنتج الخدمات بصورة فردية غير رأسمالية أصبحت مساحتها تساوي أربعة أمثال مساحة الطبقة العاملة إلا أن ذلك ليس دليلاً قاطعاً طالما أن القيمة التبادلية للخدمات والتي على أساسها أُحتسبت كلفة إنتاجها لم تتحدد في السوق حيث لم تنتصب الخدمات أصناماً فيها إذ أن الخدمات بأهم أنواعها كالدعاية والتسويق والنقل والتأمين والصيرفة لا تدخل السوق إلا محمولة في جوف السلع دون أن تُرى ودون أن يرغب فيها المشتري طالما أنه يشتريها ولا يستعملها. كان الرأسمالي يتدبر أمر توفير خدمات مناسبة لصناعته لا تثقل على السلعة وتداولها في السوق. أما فيما بعد انهيار النظام الرأسمالي فإن تحديد القيمة التبادلية للخدمة يجري بصورة تعسفية تعسفاً مطلقاً. وهكذا فان القيمة التبادلية للخدمة تصل في أحايين كثيرة إلى ألف ضعف قيمتها الحقيقية أو كلفة إنتاجها. التسويق لما يسمى quot;إقتصاد المعرفةquot; وقوننة منظمة التجارة العالمية لما يسمى quot;الملكية الفكريةquot; إنما هو تأكيد على ما ذهبنا إليه في أن القيمة التبادلية للخدمة يجري تحديدها بشكل تعسفي.

أن يحصل منتج الخدمة على أجر يساوي خمسين ضعفاً من أجر منتج السلعة، أو مائة ضعفاً أو في بعض الأحايين ألف ضعفاً فذلك يؤدي مباشرة إلى ارتفاع غير مبرر في كلفة يوم/عمل بالمعدل للمجتمع. وينعكس ذلك بالتالي في انزياح جزء كبير من قوى الإنتاج من قطاع الصناعة والإنتاج الرأسمالي إلى قطاع الخدمات والإنتاج الفردي غير الرأسمالي الخاص بالطبقة الوسطى، وتتحول الدولة بفعل ذلك من دولة الرأسمالية الإمبريالية كما كانت قبل السبعينيات في مراكز الرأسمالية إلى دولة الرفاه (Welfare State) قبل نهاية القرن المنصرم، من دولة تتوظف في توفير الشروط الحيوية للنظام الرأسمالي إلى دولة تتوظف في إنتاج وتوزيع الخدمات عـلى مواطنيها. مثل هذا التحّول الأساسي للدولـة (State Transformation) جرى تجاهله دون أدنى مبرر وبصورة مريعة مما أدّى إلى تغريب وتشويه الفكر السياسي. ما يهمنا في هذا السياق هو أن دولة الرفاه التي هي دولة الطبقة الوسطى المتخصصة بإنتاج الخدمات تمتلك سياسات حدّيه في المفاضلة بين إنتاج الخدمات وهو تخصصها وإنتاج السلع وهو تخصص الطبقة الرأسمالية وطبقة العمال. لذلك كان نزوح الإنتاج الصناعي من المراكز إلى الأطراف بفعل استنزافه بالرسوم والضرائب من قبل دولة الرفاه في المركز وهو ما تسبب في النهاية في إفلاس الدولة ولجوئها إلى الاقتراض الموغل لتحافظ على إنتاج واسع للخدمات ورفاه الطبقة الوسطى حتى وصلت ديونها إلى أرقام فلكية.

يلاحظ اليوم أن مختلف الإشتراكيين ومنهم الماركسيون يجمعون على أن الثورة الإشتراكية بعد انهيار المشروع اللينيني لم تعد في الأفق المنظور، وأن أكثر الإشتراكيين أمانة وإخلاصاً للفكر الماركسي واحتفاظاً بأدواته سليمة وفعّالة دون صدأ، كما علاها في النصف الثاني من عمر الإتحاد السوفياتي، يجتهد اليوم لمعرفة فقط الوسيلة الكفيلة باستعادة شبح الثورة الإشتراكية يحوّم في سماء أوروبا والعالم المتقدم. وهنا لا يستطيع كل أمين على النهج الماركسي ألاّ أن يُدهش من أن أحداً من الإشتراكيين والماركسيين لم يشر قط إلى أن غياب شبح الثورة الإشتراكية من سماء العالم يعني بالضرورة غياب التناقض الرئيس في النظام الرأسمالي (رأسماليين/عمال) عن مسرح الحياة الدولية، كما أن أحداً منهم لم يتطرق من قريب أو بعيد إلى طبيعة التناقض الرئيس الذي تلاه. وكيلا يذهب هؤلاء هذا المذهب تجاهلوا بصورة أدعى إلى الدهشة أسباب انهيار المشروع اللينيني خاصة وأنه كان قد عرض قواه الحيوية في صراع البقاء أكثر من مرة. تعلّمُنا فلسفة المادية التاريخية لماركس أن مختلف أحداث التاريخ إنما هي تجليّات متنوعة للصراع الطبقي. وعليه لا يجوز الإفتراض، مجرد الإفتراض، أن انهيار مشروع لينين في الثورة الإشتراكية في الإتحاد السوفياتي لم يكن بسبب الصراع الطبقي أو أنه كما يقول أيتام خروتشوف بسبب البيروقراطية، والبيروقراطية كما هو معروف لا تصرع طبقتها حتى الموت، تعيق نموها لكن لا تصرعها حيث أنها لا تمتلك وسائل إنتاج بديلة. اعترافهم بدور الصراع الطبقي في الإنهيار من شأنه أن يجرّهم إلى تحديد الطبقات المتصارعة ووسائل الإنتاج المتناقضة وهو ما من شأنه أن يثبت وهن معتقداتهم quot; الإشتراكية quot; فيما قبل الإنهيار والذي تأباه بقوة quot; الأنا quot; البورجوازية المتحوصلة فيهم. لم يسبر أغوار الصراع الطبقي في الإتحاد السوفياتي أحد كراهب الثورة الإشتراكية جوزيف ستالين وقد أظهر عبقرية، بوصف رفيق عمره فياتشسلاف مولوتوف، في استخدام كل الأدوات في حماية الثورة على الصعيدين الداخلي والخارجي. ما إن رحل ستالين حتى ارتفعت مباشرة يد الطبقة الوسطى متمثلة بالعسكريين وصنيعتهم خروتشوف تمسك برقاب الثورة وترسم نهايتها.

عالم اليوم غدا من قوام واحد بعد أن انهارت العوالم الثلاث التي ورثناها من الحرب العالمية الثانية. إنه عالم تحكمه الطبقة الوسطى حكماً دكتاتورياً قراقوشياً تهون معه دكتاتورية الطبقة الرأسمالية. لئن استندت الدولة الرأسمالية التي عرفناها قبل عام 1975 إلى الحق والقانون البورجوازيين المعلومة حدودهما فإن دولة الطبقة الوسطى التي قامت فيما بعد 1975 لم تستند إلى أية حقوق أو قوانين معلومة. تمارس الطبقة الوسطى إفتراساً وحشياً للطبقة العاملة وفلول الطبقة الرأسمالية. تدّعي أن quot; المعرفة quot; عنصر حديّ في إنتاجها من الخدمات ولذلك يلزم مبادلة quot; ساعة عمل خدمة quot; بعشرة أضعاف أو مائة ضعف quot; ساعة عمل سلعة quot;. وهكذا ينقسم العالم إلى فسطاطين، فسطاط الطبقة الوسطى التي تنتج الخدمات المعرفية وفسطاط الطبقة العاملة ومعها فلول الطبقة الرأسمالية اللتين تنتجان السلع. وبفعل الضرورة الحيوية يتبادل الفسطاطان إنتاجهما متجاهلين كل مفردات السوق فتصل القيمة التبادلية للخدمة مائة ضعف قيمتها الحقيقية والتي هي معدل كلفة إعادة إنتاجها. وما يثير السخرية حقاً هو تعالي صيحة quot; إقتصاد السوق quot;، والتي لا تستهدف أصلاً إلا تغييب كل فكر إشتراكي من فضاء المجتمعات البشرية، في الوقت الذي ينادي بعضهم بما يسميه quot; إقتصاد المعرفة quot; وتشرّع منظمة التجارة العالمية كما الصندوق الدولي ما تسميانه quot; الملكية الفكرية quot; ولكأن الإنتاج العالمي قبل نهاية القرن العشرين كان يتم بلا أية معارف أو أن المبدعين كانوا يبيعون إبداعاتهم لكل من استخدمها واستفاد منها. صندوق النقد الدولي يحفر قبره وقبر البنك الدولي معه بيديه.

التناقض بين الطبقة الوسطى من جهة والبروليتاريا وفلول الرأسماليين من جهة أخرى الذي يلعب اليوم الدور الرئيس على مسرح العالم لن يلعب أكثر من فصل واحد. ليس ذلك بسبب وحدة عمال العالم ( يا عمال العالم اتحدوا !) بل لأن كلفة إنتاج الخدمات إنما هي في الأصل من إنتاج البروليتاريا فالسلع هي التي تتحمل كامل كلفة إعادة إنتاج الخدمات. ولنا هنا أن نعلّم زعيم الإشتراكية الدولية المشار إليه آنفاً حقيقة جوهرية في علوم الإقتصاد تقول أن حياة الإنسان تستند على أساس مادي تقيمه السلع حصراً أما الخدمات فإنما هي حاجيات ثانوية تكميلية ولا دور لها في بناء المجتمعات الحيّة. المجتمعات الحالية ذات هياكل مشوّهة تعلوها طبقة طفيلية هي الطبقة الوسطى.

فـؤاد النمـري
www.geocities.com/fuadnimri01