في كثير من المناسبات ذكرت في مقالاتي الصحفية، أنني شببت ووجدت نفسي معارضا للسلطة. وقد يكون السبب في ذلك ما عاناه شعبي من جور وظلم الأنظمة العنصرية المتعاقبة على وطني، بحيث أصبح الشعب الكردي منذ أكثر من 80 سنة من تاريخ نشوء الدولة العراقية، هو الشعب الأكثر تعرضا للمذابح الدموية ولسياسات التطهير العرقي والإبادة البشرية ما جعل أبنائه يترضعون المعارضة منذ نعومة أظفارهم، ويجبلون بطبيعتهم على معارضة السلطات الحاكمة!

وأعترف أن هذا هو الجزء الأهم من لجوئي الى معارضة السلطات، والجزء الآخر يعود الى طبيعتي الإنتقادية التي أعتمدها كمنهج في كتاباتي الصحفية.. ولي صديقة عزيزة جدا علي وهي خبيرة في مجال قراءة علم الفلك والنجوم تقول لي مرارا أن طبيعتي هذه مردها الى كوني من مواليد برج العذراء.. وكثيرا ما تلومني على هذه الطبيعة أثناء أحاديثنا ومناقشاتنا رغم أنها تعلم سلفا أنني من برج العذراء ومجبول بالفطرة على مثل هذه الطبيعة، فهي كثيرا ما تؤكد لي، أن هذه الطبيعة متوفرة فقط في مواليد هذا البرج!. وبذلك يكون جميع من كانوا يعملون في صفوف المعارضة العراقية قبل سقوط النظام بمن فيهم معارضوا الفنادق هم بمجملهم من مواليد برج العذراء.


ونظرا لكوني قد جبلت على معارضة السلطة، فلم أعتد أن أكون بوقا من أبواق الأنظمة الحاكمة، أو من يسمونهم بولاة الأمور، ولكني معتاد على أن أقول ما بداخلي تجاه الآخرين حتى لو كان هناك من يفسره بالتزلف و التملق أو المدح بما ليس في الشخص المقابل. ولعل هناك بعض القراء ممن يتذكر أنني وجهت سلسلة من الإنتقادات العنيفة عبر مقالاتي المنشورة في (إيلاف) الى رئيس الوزراء السابق الدكتور إبراهيم الجعفري بعد أن لمست من حكومته الكثير من السياسات والإجراءات الخاطئة،ولكني كتبت فيما بعد مقالا إمتدحت فيه الجعفري تقديرا لموقفه الشجاع في التنازل عن ترشحه لرئاسة الوزراء في العام الماضي رغم فوزه بالإنتخابات الداخلية في كتلة الإئتلاف، وهو موقف مشرف ونادر الحدوث في منطقتنا أنقذ البلاد من أزمة كبيرة لو وقعت في حينها لأودت بالبلد الى الهاوية السحيقة خصوصا بعد أن ظهرت بوادر الصراع الطائفي في تلك الإيام إثر تفجير المرقدين المقدسين للشيعة في سامراء. وفي المحصلة هذا هو طبعي.. أعتب وأنتقد في مواضع، وأثمن وأمتدح في مواضع تستوجب ذلك دون أن أشعر بأي حرج ما دمت مقتنعا برأيي تجاه ما أكتب بحق الآخرين.


أسوق هذه المقدمة الطويلة بعض الشيء لأبين للقاريء الكريم، بأن ما سيسمعه مني بحق ( إيلاف) في هذا المقال لا يعني أنني أمتدح هذا الموقع الألكتروني الرائد لأنني أحد كتابه، لأننا ( ناشر إيلاف ) وأنا قد نكون في غنى عن كل ذلك طالما أن الجمهور المتلقي هو في النهاية سيكون الحكم الفصل، ولكن الحق أولى به أن يقال.


فهذا الموقع دشن فعلا لتجربة إعلامية فريدة من نوعها في المنطقة العربية، بل في الشرق الأوسط كله منذ إنطلاقته قبل ما يزيد عن خمس سنوات، وهي تجربة لم نعتد عليها ككتاب أو حتى القراء. فإيلاف أسست من خلال تواصلها كجريدة ألكترونية لثقافة جديدة في الوسط الإعلامي العربي الراكد بسبب ضحالة الصحافة الحكومية، قوام تلك الثقافة توفير أقصى قدر من الحرية أمام الكاتب ليكتب ما يشاء من دون رقيب أو حسيب فيما عدا الإلتزام بآداب السلوك وأخلاقية المهنة وإحترام حقوق الآخرين، وفي الوقت ذاته أتاحت فرصة مماثلة أمام القاريء للتواصل مع الكتاب عبر التعليقات التي تأخذ في كثير من الإحيان حيزا أكبر من مقال الكاتب.


ولو لم تكن قناة الجزيرة القطرية السيئة الذكر بخطابها الإعلامي السفيه بتلك الصفاقة المعروفة عنها وسط القنوات الإعلامية، لأستعرت منها ذلك الشعار الذي يقول ( منبر من لا منبر له )، ففي الحق أصبحت ( إيلاف) منبر من لا منبر له، وليست الجزيرة التي يعرف الجميع مدى سخافة خطابها الإعلامي.
كتبت عبر السنتين الماضيتين أكثر من 200 مقال الى إيلاف، ومعظم تلك المقالات كتبتها بنفس إنتقادي بالغ القسوة في الكثير من الأحيان، سواء عند تحليلي للوضع العراقي أو الكردي، أو حتى الوضع العربي، فلم ألحظ ولو لمرة واحدة أن شطب القائمون على هذا المنبر سطرا، أو حذفوا نقطة مما كتبت. وتكون إيلاف بذلك قد تفوقت حتى على الإعلام الأمريكي الذي يتبجح بوصف أمريكا بقلعة الديمقراطية في العالم، في حين نجدها تتراجع كثيرا عن قيمها الديمقراطية تحت غطاء الحرب على الإرهاب، فلا تفرض بعض القيود على صحافتها فحسب، بل تجيز التنصت ومراقبة الرسائل البريدية والإتصالات الهاتفية لمواطنيها.


أما بالنسبة لنا نحن الكتاب الكرد القلائل الذين ننشر مقالاتنا في الجريدة، فنعتبر (إيلاف) نافذتنا الوحيدة للإطلالة على العالم العربي، ولا أبالغ إن قلت أن الخدمات التي قدمتها (إيلاف) للقضية الكردية تظاهي جانبا من تحركنا الدبلوماسي الذي واكب مسيرة ثورتنا الكردية، خصوصا لجهة تعريف قضيتنا القومية العادلة بالأوساط العربية. فإحتضان ( إيلاف) للأقلام الكردية الحرة التي فقدت فرصة التعبير عن نفسها داخل كردستان والعراق بفعل الصراعات السياسية التي هي جزء من طبيعة المجتمع العراقي منذ الأزل، كان بمثابة الفرصة الوحيدة لنقل الواقع الكردستاني كما هو من دون رتوش أو تنميقات كتابية، فليست كردستان ( شام شريف) كما قد يتصور الكثيرون خصوصا من يسمع بأجواء الأمن والإستقرار والحرية فيها، ولكنها في الوقت ذاته ليست أجواء الدكتاتورية التي عشناها لسنوات طويلة. وفي النهاية نبقى نحن أيضا في هذه المنطقة الصغيرة جزءا من الشرق الأوسط الكبير بمشاكلها وصراعاتها وطبيعتها البشرية التي تنعكس على واقعنا السياسي والإجتماعي.


والفسحة التي توفرها ( إيلاف) للكتاب الكرد كبيرة وواسعة جدا في المقاييس، رغم أنها لا تشغل إلا بعدد محدود من الأقلام، ولكن هذا التواجد الكردي على الموقع مفيد جدا لمستقبل العلاقة الكردية العربية، فنحن لا نستطيع أن ننقل أرضنا الى خارج حدودنا ووطننا، كما لا نستطيع أن نطرد العرب من جوارنا، فلا بد لنا إذن أن نتعايش بأخوة وسلام بدل العيش في ظل أزمات وعلاقات تتغلب عليها النظرة الشوفينية، فلن يتأتى السلام إلا من خلال التفاهم والحوار الحضاري العقلاني، ولا يمكن الدعوة الى مثل هذا الحوار من دون أن يفهم الواحد الآخر ويستوعب مطالبه وحاجاته،ومن أين يتحقق هذا التفهم لولا وجود منابر حرة يستطيع خلالها كل طرف أن يطرح همومه ومشاكله وحاجاته وحلوله؟. من هنا تأتي أهمية ( إيلاف) كمنبر حر لطرح الرأي الكردي أمام الوسط العربي.


وليست مبالغة إذا قلت، بأن فتح بعض القنوات الإعلامية العربية وفي مقدمتها جريدة (إيلاف) أحضانها للكاتب والسياسي الكردي خصوصا بعد سقوط النظام الدكتاتوري، ووصول الإنترنيت الى كل مدن ونواحي وحتى قرى كردستان،بل والى معظم البيوت، قدم خدمة جليلة لهذين الشعبين ليتفهم بعضهما حاجات الآخر من دون أي تهميش لدور الطرفين.


وأكثر من ذلك كانت هناك جهود من قبل بعض الزملاء بإصدار نسخة كردية من جريدة (إيلاف ) الألكترونية في كردستان، وأعتقد أنها فكرة ما زالت قائمة، وتكون إذا ما وجدت طريقها الى التنفيذ بمثابة نقطة تحول كبيرة في مجال الإعلام الكردي والعربي معا، لأنها ستشكل جسرا للتفاهم بين هذين الشعبين الصديقين.


لكل ذلك أعتقد أن الجائزة التي نالها ناشر إيلاف والتي تعتبر بالنسبة لكتاب هذا الموقع وسام شرف كبير،أنها كانت أقل من المكانة التي تتمتع بها إيلاف وسط قرائها وكتابها وكذلك وسط الإعلام العربي عموما.


وفي الختام أود أن أطرح على الزملاء في الموقع وخصوصا الزميل عثمان العمير ناشر الموقع، أن يحي مشروعا سبق أن تمت مناقشته قبل سنتين، وهو مشروع الجريدة الورقية لـ( إيلاف) على غرار الشرق الأوسط والحياة، كما أضم صوتي الى بعض الإخوة الذين إقترحوا فكرة إنشاء قناة فضائية خاصة بالموقع، فهي فكرة جديرة بالدراسة والتطبيق السريع، لأنه كما تعيد الكثير من الإحزاب السياسية في منطقتنا أسباب تأسيسها الى ضرورات موضوعية وذاتية، فإن تلك الضرورات موجودة أيضا بالنسبة لـ(إيلاف) لتتحول الى جريدة ورقية وقناة فضائية، وستكون بذلك قد تقدمت بخطوات أكبر نحو ترسيخ مباديء الإعلام الليبرالي الحر في الشرق الأوسط.

شيرزاد شيخاني
[email protected]