يقوم جزء كبير من الخطاب الدعوي القومجي والإسلاموي على العويل، والندب، واللطم ونتف الشعر، والصراخ لأن العرب والمسلمين مستهدفون دائماً، وأبداً من قوى خارجية كافرة وحاقدة وحاسدة، ولا تنفك عن بذل الغالي والرخيص في سبيل حبك الدسائس، والمؤامرات للتخلص من هذا العرق الفذ والنادر، والتآمر عليه، وعلى وجوده برمته. وأن كل ما يحصل لهم من هزائم ونكبات وتعثر وبلاء، هو بسبب ذاك الاستهداف الرخيص، والمؤامرات الدنيئة التي لا تنقطع. وما يحصل الآن، مثلاً، من مذابح في دارفور ولبنان، ومجازر فتح وحماس، وشلالات الدم في العراق والجزائر واليمن والصومال، والمواجهات الدامية مع قطعان الغكر الضال في السعودية، مرده قاطبة لنظرية الاستهداف ليس إلا، فالعرب والمسلمون، حسب الخطاب إياه، قوم مسالمون طيبون بريئون ودعاء، ولم يعرفوا يوما التقاتل والتطاحن والثأر والانتقام والغزوات، أو سفك الدماء، ولا سمح الله، وتاريخهم مثل الفل ناصع البياض.

ويتخطى ذاك الخطاب، وكتـّابه المساكين الغلابة، بإصرار متعمد، حقائق قاهرة وفاقعة على شاكلة أنه ليس هناك من موروث استبدادي تراكمي مخزِ في هذه الأصقاع يوجه السلوك العام والخاص ويتحكم به. وأن ليس هناك تناحر مجتمعي تاريخي بين هذه القبائل والطوائف والشعوب والأقوام، وأن الموروث المعرفي لا يفتقر لتجارب زاهية يمكن محاكاتها أو التعويل عليها عند السعي لاستنباط نماذج تاريخية ما. ويعزل كتاب التأسلم السياسي والعوربة العصماء مجمل هذه الصراعات عن شرطها التاريخي والموضوعي ليلصقوها إما بطائفة، أو بشخص، وتيار، أو ردها للغرباء والأغيار، وذلك للتنصل من أية مسؤولية قيمية معيارية داخلية، أوعملية نقد ذاتي بناء عما يحصل من مهازل وويلات حصلت وتحصل قد تفضح زيف هذه المزاعم الدعوية الفارغة الزائفة والكاذبة الجوفاء. لأن في ذلك إدانة، لا لبس فيها، لمجمل ما تحمله من يقين عقيدي متزمت لا ينفي عن ذاته الطهرانية والعصمة المطلقة. وسينسف، عندها، لو تمت مقاربته بشكل موضوعي وحيادي، كلية، مجمل ما يقوم عليه هذا الخطاب من أساس.

وقد يكون جزء من ذاك الخطاب، حتى ولو أخذ على علاته، صحيحاً، تماماً، فيما لو كان العرب والمسلمون، قد سطروا، ولا سمح الله، تاريخاً ناصعاً وزاهياً يعتد به، ويعتبر قدوة للأجيال، أو أنهم اليوم، وبعيداً عن الرومانسية التاريخية، إياها، يشكلون كياناً متماسكاً تحكمه القوانين والدساتير الوضعية، وقوة سياسية واحدة موحدة جبارة، ويحسب لها ألف حساب، ولها جيش موحد منظم وقوي ويمتلك ترسانات عسكرية هائلة، وأسلحة فتاكة، وأسراراً علمية خارقة، واكتشافات عظيمة، ولديها مجتمعات موحدة لا ينخرها أي داء أو سوس ووباء. وأن شعوبها تتحلى بأفكار، وعقول مستنيرة مبدعة خلاقة قادرة على التكيف مع متطلبات العصر ومواكبة التقدم الحضاري والإنساني، وأنهم يعيشون بأمن وأمان وسلم أهلي يحسدون عليه من قبل الآخرين، وأنهم يقدسون الفرد، والعقل والمبادرة الفردية، ويحترمون حقوق الإنسان، ويحرصون على عدم التمييز والعنصرية ضد المرأة والأقليات ولا يعرفون الاضطهاد. ووصلوا إلى مراحل متقدمة من الحضارة البشرية تجعل الآخرين مغتاظين وحانقين لما حققه العرب والمسلمون من إنجازات يستحيل على الآخرين إنجازها في يوم ما.

ولتبرير الفشل العربي الذريع، وحالة العجز والركون والتشرذم الإسلامي المرير، وتلكؤ وانهيار جميع المشاريع القومجية وانتهاؤها إلى ما يشبه الكوارث الوطنية والإنسانية ( تناحر وتنابز قبلي وطائفي وعشائري مقيت، وتفكك وطني مريع ومخيف، وتحلل مجتمعي وخلقي وضيع، ومقابر جماعية مهولة، وبلدان مهلهلة، وأوطان بائسة مقفرة يعشش فيها الجهل، والتخلف، والأمية، والفقر الجماعي، ودول بوليسية جائرة، ومجازر دموية سافرة...إلخ)، فإنهم يعزون كل ذلك لنظرية الاستهداف إياها، فقط، وليس لعدم امتلاكهم للأدوات اللازمة للانخراط في روح العصر، ولعدم مواكبتهم جملة وتفصيلاً لفكر وروح العصر الحديث، وعدم قدرتهم على التكيف مع متطلبات الحداثة والتطور والارتقاء الإنساني من معايير وقيم ومفاهيم جديدة وإصرارهم على البقاء في محيط القرن السابع الميلادي، وعدم مبارحته، ما أدى لتجمد أدمغتهم، وتحجر عقولهم، وتكلس رؤوسهم، ووقوفها عند مرحلة بدائية ومتواضعة من التاريخ البشري، وتحديداً على أعتاب أولئك البدو الجهلة الغزاة الأجلاف أعجوبة الزمان الكبرى، يتمثلون سلوكهم في كل شاردة وواردة، معتبرين إياها عتبات quot;مقدسةquot; لا يجوز تجاوزها، أو التحلل من طغيانها ووقعها عليهم، أبداً، وهي تطبق عليهم وتجعلهم كطير صغير أسير وقع في حبائل شرك مكين.

والسؤال الآن لماذا وعلام يستهدفوننا، وهل ثمة ما يثير لدى أي كان شهية الاستهداف، إذا كان هذا هو واقع العرب والمسلمين الحالي المؤلم؟ وإذا كانت هناك شعوب وأقوام وأمم أقوى منا وأكثر حضارة ورقيا وقوة ومالاً وثروات، ولا يستهدفها أحد أو يفكر بالتآمر عليها؟ ووفق، المعطيات المتوفرة عنهم أكاد أجزم، وأتعهد، بأن أحداً لن يستهدف الأعراب البتة طالما هم ما عليه من تشرذم وفقر، وجهل، وبغي، واستبداد، وتناحر وفجور وتردِ وانحطاط عام وهم لا يحتاجون لأي استهداف أو عدوان بل لفرق إنسانية للمساعدات الأولية ولفض الاشتباكات هنا وهناك. وهم، والحال إياه، ليسوا أكثر من مجرد كومبارس عددي على المسرح الدولي، لا يقدم ولا يؤخر، وquot;لا للسيف ولا للضيف ولا لغدرات الزمانquot;، يتأثرون، ولا يؤثرن بالأحداث، ولذا تراهم لا يلفتون بال واهتمام ولا حتى خوف، أو فضول أي كان، ولا يثيرون، وفي المطلق، أكثر من مجرد العطف، والشفقة، والحنان، والمساعدات الإنسانية البسيطة من قمح وذرة وفتات وشراشف وبطانيات، للبقاء، والاستمرار في الحياة، ليس إلا.

نضال نعيسة
[email protected]