يُعد المجتمع السوري من المجتمعات الفتية، إذ تبلغ نسبة من هم دون الثلاثين حوالي النصف من مجموع السكان. وهذا مؤداه أن القوى السكانية الأساسية الفاعلة التي تحدد بتوجهاتها ملامح المستقبل السوري هي القوة الشابة من الجنسين. والفتاة السورية تعتبر مشاركة فاعلة نسبياً في حياة المجتمع على مختلف الصعد والمستويات، وذلك مقارنة بأوضاع زميلاتها في الدول العربية، وغير العربية في كل من آسيا وأفريقيا.
ويمثل الطلبة في الجامعات والمعاهد الدراسية القسم الأكبر من هذه الطاقة الشبابية، إلى جانب أفراد الجيش الكبير نسبياً من جهة الحجم؛ بالإضافة إلى الأجهزة الأمنية والمؤسسات التابعة لها؛ وهي أجهزة لا يعرف بالضبط عدد افراداها بالضبط، وذلك بموجب الحسابات الأمنية، لكن التقديرات معظمها تشير إلى أعداد كبيرة ، ربما تصل إلى ربع مليون شخص بين موظف عامل، وتابع مرتبط، يتلقى الأوامر والتعليمات من الأجهزة المعنية. وهم رقم كبير بالنسبة إلىبلد مثل سورية، لا يتجاوز عدد سكانه 18 مليون نسمة. وهناك قسم آخر لا يستهان به من الطاقة الشبابية يعمل في القطاعات الحكومية المختلفة؛ وبهذه المناسبة لا بد من التنويه بأن الحكومة في سورية تعد صاحبة العمل الأقوى في البلاد، لأن معظم القطاعات التعليمية والإنتاجية مرتبطة بها، تخضع لخططها وبرامجها، وتلتزم التزاماً صارماً بتعليمات اجهزتها الأمنية.


إننا إذا وضعنا في اعتبارنا أن السلطة القائمة في سورية - مجسدة في الأجهزة quot;الأمنيةquot;- هي التي تهيمن بصورة مطلقة على الجامعات، والجيش، والنقابات التي تتبعها مختلف القطاعات الانتاجية والخدمية؛ إننا إذا فعلنا ذلك، لأدركنا أن الطاقة الشبابية مكبلة بقيود التهديد والمصلحة، والخشية من المستقبل المجهول. كما انها في الوقت ذاته تمثل هدفاً لخبرات غسيل الدماغ والتسطيح والتزييف والإفساد؛ وهي خبرات متراكمة لدى الأجهزة السلطوية المعنية بأمور الشباب، وقد حققت الخبرات هذه على مدى عقود، لا سيما في ظل غياب الفكر الآخر المعارض الذي حكم على نفسه بالإعدام، حينما ارتضى الخضوع لمشيئة الأسد الأب، والتزم بالابتعاد التنظيمي عن الجيش والمؤسسات التعليمية. وهكذا تحول الجيش من مؤسسة دفاعية، تلتزم مصالح الوطن، إلى مؤسسة معطلة تستخدم من دون إرادة القسم الأكبر من ابنائه، اداة للتهديد والقمع عند اللزوم. أما الوصول إلى المراكز القيادية في المؤسسة المذكورة، فيتم عن طريق الولاء المطلق لمكبلي الشعب، وليس الخبرة والإخلاص للوطن وأهله.


أما المؤسسات التعليمية، وخاصة الجامعات، فقد غدت مرتعاً لعقائدي النظام والمروجين له. ولم يعد الإنتماء إلى الحزب القائد كافياً للإرتقاء الوظيفي، طالما أن الارتباط الأمني هو الأقوى والأضمن. وما يتصل بالوظائف الأخرى، فلكل منها الثمن المطلوب، يُدفع عداً ونقداً للجهات الأمنية، صاحبة الكلمة الفصل في ميدان التعيين؛ وهي - الجهات المعنية- من الحول والسلطة ما يمكنها من التدخل عند اللزوم، لاتخاذ قرار الفصل والإبعاد والنقل؛ الأمر الذي يجبر المُعيَّن على التزام المسارات المسموحة، والإبتعاد عن كل ما من شأنه تهديد الأرزاق التي هي في بلادنا - نتيجة الفاقة- أهم من الأعناق.


ويبقى قسم من الشباب ، يشمل العاطلين عن العمل، وأولئك الذين يدخلون في خانة ما تسمى بالبطالة المقنعة. ومن الملاحظ أن التفاوت قائم ضمن هذا القسم بين الذكور والإناث، فنسبة الفتيات العاطلات عن العمل أعلى بكثير من نسبة الشباب. كما ان نسبة العاطلين عن العمل في الريف ومدن الأطراف هي أعلى من النسبة المعنية في المدن الرئيسة الكبرى. وما يشغل افراد هذه المجموعة أكثر من غيره يتمثل في كيفية تأمين لقمة العيش، ومستلزمات تكوين الأسرة، خاصة في ظل الغلاء المتفشي المتصاعد من ناحية؛ وفي اجواء الثورة الإعلامية، والتواصل مع الداخل والخارج؛ وكل ذلك يتسبب في إثارة حالة من التوتر لدى هؤلاء مصدرها الرغبة في التمتّع بمقومات الحياة العصرية، أسوة بالآخرين من ناحية، وعدم قدرة الواقع المعاش على تأمين أبسط مستلزمات العيش الكريم من ناحية ثانية. كل ذلك يدفع بهؤلاء إلى الإحباط والإنزواء، وربما البحث عن أقصر الطرق المؤدية إلى الحل، من دون التفكير في العواقب أو الالتزامات الأخلاقية. كما ان العديد من هؤلاء يقعون فريسة اللامبالاة والفوضوية والعدمية، وكل ذلك يحد من فاعليتهم ، ويسلب المجتمع دورهم الحيوي في ميدان التغيير المطلوب. والأمر اللافت للنظر في هذا السياق هو ان الإهتمام بالعمل السياسي لدى أفراد هذه المجموعة لايتناسب مع معاناتها وظروفها الصعبة. فهي بدلا من أن تنخرط في العمل السياسي، وتطالب من خلاله بحقها في الضمان الإجتماعي والتأهيل، والحصول على عمل مناسب، بدلا من كل ذلك، تتخذ الموقف السلبي، الأمر الذي يلقي الضوء على وجود خلل في العمل السياسي المعارض بصورة عامة، خلل تتشخص ماهيته في عدم القدرة على استقطاب الطاقات الشابة، وعدم وجود برامج مستقبلية من شأنها البحث عن الكيفية التي يمكن بموجبها مد الجسور مع الطاقات المعنية لتتحول إلى قوة فاعلة، تتخذ مواقعها المناسبة، سواء في القيادة ام القاعدة، وتعمل على تعزيز الفعل المعارض، وتطويره، ليرتقي إلى مستوى التحديات.


إن الجهد المعارض السوري الذي تسيّره راهناً عقلية المتقاعدين وسلوكياتهم، فضلاً عن أمزجتهم، يستوجب التجديد والتزوّد بالقدرات الحيوية الإبداعية التي تعيش عصرها، وترنو نحو المستقبل. وهنا تجدر الإشارة إلى وجود تباين نسبي بين الفصائل المعارضة المختلفة من جهة احتضانها للطاقات الشبابية. فالفصائل الكرديةعلى سبيل المثال تتمتع بوضعية أفضل من غيرها في هذا المجال. كما ان وضع جماعة الاخوان المسلمين هو الآخر أفضل مما هو عليه واقع الحال في الأحزاب العلمانية، سواء اليسارية منها أم الليبرالية أم القومية العربية؛ ما عدا حزب البعث بطبيعة الحال، فهذا الأخير مفروض بقوة الدستور القسري والأجهزة الأمنية قائداً للمجتمع والدولة، يهيمن على الجيش وسائرالمؤسسات التعليمية.ولكن حتى بالنسبة إلى الفصائل الكردية والاخوان يلاحظ أن الترهل هو الطابع الغالب على قياداتها، الأمر الذي يطرح بجدية قضية ضرورة فتح ملف موقع الشباب من العمل المعارض، هذا إذا كانت هناك رغبة حقيقة واقعية في التغيير المطلوب.

د. عبدالباسط سيدا

[email protected]