نعيش تحت قصف quot;الأخبارquot; هذه هي حالتنا عربياً، فنحن نذهب ونجيء على جرس الأخبار العاجلة، حتى أصبح العالم العربي كله بؤرة للأحداث، لم يبق بلد عربي بمنأى عن حدث إرهابي، أو عن سطو أو غزو أو احتلال، أصبح الفلتان الأمني والاشتباك السياسي على أشدّه، وعادت مرحلة الاستقطاب العربي البيني ماثلةً للعيان، وكأننا إزاء استعادة إجبارية لمرحلة ما بعد الاستعمار التي ساهمت بقضّها وقضيضها في تشكيل النمط السياسي العربي الحالي.


تحوّل الإعلام إلى خليط فبين برنامج quot;الطبخquot; و quot;المؤتمر الصحافيquot; و quot;برامج الهواةquot; يركض العربي نحو الجرم الذي يمكن الإمساك به من بين تلك الضوضاء، فهو يركض بين الأخبار العاجلة والمؤتمرات الصحافية، وشريط الأخبار العاجلة المليء بالأخبار الدموية، وبين برامج تستنفر العرب كلهم بحثاً عن quot;نجمquot; من النجوم يمكن أن يسدّ رمق السذّج الذين يرخون جيوبهم للمبتزّين من التجار، بين كل تلك الخلطة العجيبة الغريبة يتسمّر العربي كل يوم تحت قصف الشاشة. وإن كان ليس من أصحاب التسمّر تحت الشاشات فهو يعيش بين القصف المنبري في الخطبة، وبين الإشاعات التي تتداول في المجالس السطحية والمقاهي، وبين الأنباء الترويجية أو الترهيبية التي تتساقط على جواله كالقذائف كل لحظة.


تتحول حينها حالة العربي إلى ما يشبه الكوميديا العفوية التي تشرح نفسها بنفسها، ويصبح العالم كله مسرحاً مفتوحاً للممثلين، لكنهم هذه المرّة ليسوا من الفنانين والمحترفين، وإنما من الزعماء السياسيين، ومن الموجهين، والمحللين السياسيين، والمثقفين الذين يجرّون ملابسهم وأجسادهم كل مساء نحو الاستديوهات لتحليل quot;المشهد العربيquot; و quot;وضع النقاط على الحروفquot; و quot;تأسيس رؤية عربية شاملةquot; أو من الزعماء الذين يذهبون من quot;مؤتمر صحافي إلى آخرquot; من دون أي إنجاز يذكر أو تطوير سياسي ملموس.
ومن جهة أخرى، يعيش المواطن المسحوق تحت القصف الإخباري والإعلامي، وتحت تجييش إعلامي كبير، الأمر الذي يجعل من القضية هي quot;الإنسان العربيquot; بينما نرى تزحزح الاهتمام الشعبي بالقضايا، نراه في التوافد الكبير على البرامج السطحية والتهريجية، وفي التشجيع الحماسي العظيم، ونرى جماهير عريضة يحظى بها quot;النجمquot; المزعوم لم يحظ بها بعض السياسيين، وهذا كله يعود إلى تقهقر الإحساس الشعبي بالقضايا، لأنها/الشعوب فقدت quot;الثقةquot; بالملفّات العالقة والقضايا الساخنة، لأن العرب ضيعوا الكثير من الفرص التي ربما تجرّ الاستقرار النسبي.


وقد قالها خادم الحرمين الشريفين بوضوح في كلمته في quot;القمةquot; حينما عتب على العرب وسألهم quot;ماذا قدمنا للشعوبquot;؟ وقالها أيضاً حينما طرح مبادرة تعتبر الفرصة الأكبر للتسوية العربية حالياً عبر مبادرته التي طرحها في مؤتمرات القمة الأخيرة، في بيروت والخرطوم والرياض، إنها فرصة للبتّ في القضايا من أجل الاهتمام بالشعوب، لم تعد الشعوب العربية بانتظار حلّ للقضايا، أصبحت تنظر إلى القضايا بشيء من الغيرة، وذلك للوقت الذي تأخذه من الزعماء في العالم، في وقت يغيب الإنسان عن الكثير من المباحثات والتداولات السياسية العربية. إن الإعلام الذي يحوّل القضية إلى حالة فوق مرتبة الإنسان إعلام زعامات وليس إعلام شعوب، وهذا ما تمارسه بعض القنوات التي تغفل بشكل تام عن الشعوب واهتماماتها وآرائها، في وقت تنفر فيه الآراء من الضخّ الإعلامي المركّز لقضايا هامشية لا تعني المواطن العربي في شيء، بينما لا تحفل تلك القنوات بنسب الفقر، وبالمجاعات وبنقص المياه، وبالمستقبل المعتم!


إن العربي منذ وجد وهو كائن سياسي quot;ليس بالمعنى الأرسطيquot; الذي يعني quot;المسايسة والمجاملةquot; وإنما بالمعنى المتعلق quot;بالسياسة المتصلة بالحكمquot;، والتاريخ العربي والإسلامي مليء بالأحداث السياسية التي ساهمت في تشكيل العقل العربي الحديث، هذا فضلاً عن الدور السياسي الواضح في تشكيل بعض المجالات المعرفية الإسلامية والتدوينات الفقهية والعلمية. لقد تشرّب العرب السياسة وأصبحت شغلهم الشاغل، حتى المذاهب الإسلامية نفسها ماهي ndash;في أغلبها- سوى انشطارات تأويلية يحركها دينمو سياسي واحد. إلا أن الضخّ السياسي منذ بداية الاستقلال العربي عن الاستعمار الأجنبي جعل من العرب يتجهون نحو quot;إرادة التنميةquot; وهي اللفظة التي ذكرت من قبل أنها استغلّت من قبل الحزب الناصري تحديداً من أجل التوغّل المستمرّ في الضخّ السياسي تحت يافطة التنمية. أما اليوم فإن إرادة التنمية لم تعد لغزاً! فنحن نراها صرخة في كافة الأرياف العربية، تسأل عن دور الحكومات في القضاء على الفقر والعاهات والأمراض، وعن دورها في تطوير التعليم الذي يئنّ من تخلفه العالم وهذا ما يريده الشعب من الزعامات، وهي quot;الإرادةquot; التي تغيب عن الضخّ الإعلامي المشغول بالإعلانات والأخبار العاجلة والتحليلات السياسية السطحية والمكررة والعقيمة.

فهد بن سليمان الشقيران
[email protected]