قيل إنّ القادة، ليلة المعركة، كانوا يستمعون إلى أم كلثوم.
حنا مينا- المرصد

لم تكونا أكثر من طائرتي استطلاع لطالما كانت خطوطهما البيضاء محفورة في سماء بلادنا كما في ذاكرتنا. لم تكونا أكثر من طائرتين إسرائيليتين لم ننس بعد غزوهما الدائم لأجوائنا والذي لم تكبحه يوماً القرارات الدولية أو نتاجها من القوات الزرقاء.

لم تزل ذكرى زميلاتهما الحربية ماثلة متجسدة في عيون من عايش الصيف الماضي في لبنان بينما ينزلن علينا بالرحمة الأميركية قنابل ذكية وصواريخ تخترق السياسة والوحدة الوطنية قبل الأبنية والمنشآت.

هي جولة لا أكثر.. جولة لم تدم أكثر من نصف ساعة عند الثانية بعد الظهر في سماء بلادنا غير المحصنة. نصف ساعة لا أكثر وصلتا بها إلى أجواء العاصمة بيروت ثم عادتا أدراجهما إلى أرض الميعاد. فكأن النهار الذي كان بهياً منذ الصباح، بشمسه الدافئة التي تنسي إلى حد ما كل المشاحنات السياسية والإختراقات الأمنية والعمليات العسكرية التي يعيشها لبنان، كان على موعد معهما لتعيداه إلى الذكرى التي يشهدها وقد بدا وكأنه قد تغاضى عن ذكرها بحجة الشؤون الداخلية.

فأعادت به عقارب الساعة مجدداً إلى أجواء الخامس من حزيران ولو لم تكن حصة لبنان يومها بل أشقائه من العرب. وقد نال حصته مضاعفة مرات ومرات بعدها. الخامس من حزيران الذي كان بداية الهزيمة الفعلية لهم أجمعين وبداية وقوعهم في الشباك الأميركية. الخامس من حزيران الذي أسموه نكسة امتدت تسميته بعدها إلى ما لا نهاية.

جولة واحدة قامتا بها لتعلنا تفوقاً لم تخرقه سوى مجموعات صغيرة من المقاومين ولم يعترف لهم كثر بخرقه. تفوق في أربعين انتصارهم. تفوق في الوصول إلينا دون الوصول إليهم. تفوق في معرفة كل شيء عنا دون أن نعرف شيئاً عنهم. تفوق في استخبارات دولتهما. تفوق في التغاضي عن القرارات الدولية والمباهاة بذلك وإلزامنا بالتالي بتلك القرارات.

تفوق في قسمتنا وافتراقنا. تفوق في بذر الخلاف بيننا على حفنة من الكراسي لم تكن يوماً أكثر من ديكور. تفوق حتى في الترويج لهزيمتنا رغم انتصارنا عليها الصيف الماضي، فأصوات الهزيمة المنكرة كانت تعلو أكثر من صوت إسرائيل لدينا حين لم يعتبر جميع اللبنانيين ذلك النصر نصراً فأنكروا على المقاومة والجيش والشعب اللبناني انتصارهم.

جولة واحدة أعادتنا إلى أجواء نعيشها دوما بحكم ضريبة الجيرة التي يدفعها لبنان عوضاً عن العرب جميعاً. لكن طلتهما لهذا النهار كانت ذات نكهة خاصة هي نكهة ذكرى الهزيمة المرة وقد ألحقتها بنا جميعاً فلسطينيين ومصريين وسوريين وأردنيين وعراقيين قبل أربعين عاماً وما زلنا كما نحن دائماً تمتلكنا روح الهزيمة والفرقة فتبرز في اتفاقات مهادنة، وتطبيع، ومواقف هشة عند كل اعتداء ومجزرة ترتكبها بحقنا.

وللعلم فقد كان المشهد بديعاً هذا النهار بالذات في سمائنا حين أطلت الطائرتان فوق منارة بيروت في جولة ناجحة ومهمة سهلة، بينما كانت مروحية صفراء جديدة للجيش اللبناني تمضي شمالاً لقصف مخيم نهر البارد، وأخرى خضراء قديمة تجول فوق الضاحية الجنوبية. أما قوات الطوارئ الدولية الآتية بموجب القرار 1701 فربما كانت نوبة النوم لديها لم تنته بعد منذ جاءت.

كل نكسة وأنتم بخير.

عصام سحمراني