يحمل مسلحو فتح ومسلحو حماس أسلحتهم ومعداتهم العسكرية ليوجهوها نحو صدور بعضهم البعض، بعد ما أطلق بعضهم رصاص الاتهامات نحو وطنية البعض الآخر. وما لبثت أن تحولت الشرارة إلى جهنم تعصف بنبل وعدالة القضية الفلسطينية، طالما نحن قادرين على بعضنا، بعد أن نالت من نفوس أبناء الأرض في الداخل وفي الاغتراب. يحظى صدر كل فلسطيني بشعلة الثورة التي مكنتهم من أن يصنعوا من أجسادهم حصناً عالياً يحمي الدين والوطن، والتي أذاقت المحتل الويلات وألبسته رداء الخوف والفزع. وهي التي إن لم يحسن توجيهها تنقلب على صاحبها فيحرق بها نفسه بدلاً من عدوه، وهو ما يحصل الآن. فقد تبدل العدو، وأصبح الإخوان أعداءً ينفذون أجندة الإسرائيلي دون أن يبذل جهداً، يجلس عن بُعدٍ يتفرج، وتأتيه أنباء القتلى والجرحى نسائم باردةً تخفف عنه عناء القيام بالمهمة نفسها، ويا أسفاه!

إلى جيراننا في الشمال، حيث بنى الحقد له جسوراً وعيّن نواباً متكلمين باسمه وعلا صوته، وبتنا نسمع كلماته البذيئة وشتائمه القبيحة. ونشرت غربان الخراب الذعر وزعزعت استقرار الوطن الصغير الكبير، وأغرقته في موجٍ شديد متلاطم من الدسائس والمؤامرات والاغتيالات. من دولةٍ حاضنةٍ قاسية، إلى فارس تكتنفه الأسرار، إلى جنودٍ أتوا من وراء المحيط كرمى للربيبة، يتيه بلد الفن والجمال في غياهب السياسة ويتخبط. أثبت لنا لبنان في حرب تموز الماضية أنه أكبر بكثير من مجرد طيرٍ جميلٍ يغني، ولكن يصعب على اليد ذات الثمانية عشر إصبعاً أن تشكل قبضة قوية واحدة.

quot;وفي العراق خوف وجوعquot; منذ اللحظات التي كتب فيها السياب كلماته وحتى يومنا. قبائل من أسود ونمور، وحتى ضباع، تخلصت من قضبان حديدية كبحت جماحها لسنوات، حتى شحذ كل منها أنيابه وزمجر وانطلق ليعيد أيديولوجية قطع الرؤوس التي لم تنتهِ منذ التجرؤ على حفيد رسول الله. خراب بغداد يشابه إلى حد كبير خراب بيت المقدس في عهدٍ من عهود بني إسرائيل بعد أن تجاوزوا حدود الله، يقول الحافظ ابن كثير في كتابه البداية والنهاية ج2، فصل خراب بيت المقدس: quot;أوحى الله إلى نبيٍ من أنبياء بني إسرائيل يُقال له أرميا حين ظهرت فيهم المعاصي، أن قم بين ظهراني قومك فأخبرهم أن لهم قلوباً ولا يفقهون، وأعيناً ولا يبصرون، وآذاناً ولا يسمعون... وأن هؤلاء القوم تركوا الأمر الذي أكرمت عليه آباءهم والتمسوا الكرامة من غير وجهها... وإني أقسم بجلالي وعزتي لأهيجن عليهم جيولاً لا يفقهون ألسنتهم ولا يعرفون وجوههم ولا يرحمون بكاءهم ولأبعثن فيهم ملكاً جباراً قاسياً له عساكر كقطع السحاب ومواكب كأمثال الفجاج كأن خفقان راياته طيران النسور وكأن حمل فرسانه كر العقبان يعيدون العمران خراباً ويتركون القرى وحِشة، فيا ويل إيليا وسكانها...quot; إلى آخر ما ذُكِر، وبالفعل حصل ذلك على يد الملك البابلي نبوخذنصر. فكأن الظلم والطغيان الذي مارسه النظام السابق هو ما استجلب العذاب إلى العراق، وليس أسلحة الدمار الشامل التي كانت سبباً دنيوياً اتضح بطلانه. والعجب كل العجب ممن تسربل بالسلاح ليقابل الكلمة، وغاب عن كثير من أبناء حضارة السبعة آلاف عام أن الكلمة تُقابَل بالكلمة، والفكرة بالفكرة، وأن الأفكار التي استُهدِفت بالقنابل في رؤوس أصحابها ما تزال موجودة ومحفوظة في الكتب.

وفي الخليج ترتعد الفرائص من السلاح النووي الإيراني، وبتأثيرٍ من سيدة العالم الأولى وبخبثها المعهود، حولت عقول الناس لخدمة مصالحها ومنافعها، مستغلة - أسوأ استغلال - الاختلاف المذهبي بين الدول لتحرك دولاب التحريض والتخويف، تمهيداً لكسب ود طرف دون طرف والانتفاع من تأييده في فسح الطريق أمامها لاستخدام أراضيهم ساحة لمعركتها هي، وثرواتهم وقوداً لا ينضب لرغبتها في التسلط والتكبر. بينما في الطرف الآخر تربض ترسانة السلاح النووي الإسرائيلي على قلب العالم مهددة وجود الأمة العربية والإسلامية، وسبباً مباشراً وغير مباشر لمعظم الحرائق المشتعلة في عالمنا. لماذا التجاوز عن إسرائيل والتركيز على إيران؟ لماذا التجاوز عن دولة وُجِدت قسراً وبنيت على جماجم وأشلاء الأبرياء والتركيز على دولة ما زالت الحضارة تدين لتاريخها؟ ليس من شكٍ في أن صراعنا مع دولة إسرائيل صراع وجود وهوية، بينما اختلافنا مع إيران اختلاف مذهبي لا يجدر به أن يكون سبباً لصراع وقتال. هنيئاً لرجال فارس الثريا التي كُتِب لها أن تكون من نصيبهم، كما شهد نبينا: quot;والذي نفسي بيده، لو كان الإيمان منوطاً بالثريا لتناوله رجال من فارس.quot;

quot;وكم بمصر من المضحكات، ولكنه ضحك كالبكاءquot;، من ذا الذي تجرأ على تحويل مدرسة الحضارات ومنار العلم والعلماء إلى فوضى عارمة من التخلف؟ تخلف جعل من النصب والاحتيال ذكاء ووسيلة مشروعة لكسب الرزق، تخلف جعل من المعلمين والأطباء والمهندسين تجاراً، تخلف جعل آخر النفق المحدد للأحزاب هو الكبت والانغلاق. أحدهم صنع نسخة عن مصر الأصلية، (مصر تقليد) إن جاز التعبير، لا تشبهها سوى في الاسم، أما البناء والإنسان فهو مخالف تماماً عما يُفترض بها أن تكونه. لم يعد بمصر سوى بناياتٍ شاهداتٍ على عبقرية مميزة نمت في الماضي. ماضٍ حاضر، وحاضرٌ ماضي.

ولا أريد الخوض في الحديث عن الأغصان الشائكة التي تحرم الأردنيين والفلسطينيين من العيش بودٍ واحترام، فالكل يعلم.

هؤلاء هم جيران دولة إسرائيل، السرطان الذي يتفاقم، وعذراً من نبي الله إسرائيل. الكل صنع من أخيه عدواً له، دون أن أنسى المصائب الأخرى التي ابتُليَت بها quot;خير أمةquot; من الإرهاب والتكفير والمخدرات والنهب والسلب والانحلال الخُلُقي.. وماذا بعد؟ مضى فينا سلاح عدونا الفكري، واستلمنا منه سلاحه العسكري لنمضيه في أنفسنا، بالنيابة. أعطيناه الوقت الكافي والهدوء اللازم للتفكير والتخطيط لما يريدونه هم لمستقبلهم ومستقبلنا معاً.
كم هي محظوظة هذه الدولة اللقيطة بأعدائها!

لقراءة مقالات اخرى في ايلاف