عمليات غسيل مخ كبيرة تدور في العالمين العربي والإسلامي وتقوم بها حكومات وهيئات ومنظمات دون كلل أو ملل. الغرض من هذه العمليات إقناع المسلمين بأن هناك من يعادي الإسلام ويضطهد المسلمين. عمليات غسيل مخ رخيصة تلعب بالعقول البسيطة باسم الدين دون ضمير أو مسئولية لأنه لا يوجد دليل منطقي واحد على أية كراهية يكنها الغرب للإسلام أو على أي اضطهاد يمارسه ضد المسلمين من قاطني دوله. فالغرب، المتهم الأول والرئيسي بمعاداة الإسلام واضطهاد المسلمين، يحترم حقوق الإنسان بدرجة مبالغ فيها، حتى أن بعض الأصوات بدأت تحذر من الأثار السلبية للتمسك بمباديء حقوق الإنسان على حساب الأمن الاجنماعي للبلدان الغربية. ولعل قصة الشيخ المصري أسامة مصطفى حسن نصر الملقب بـ أبي عمر الذي اختطفته وكالة المخابرات الأمريكية في إيطاليا بحجة تشجيعه على الإرهاب، قبل أن تعتذر الحكومة الإيطالية له بعدما برأت ساحته إحدى المحاكم الإيطالية، خير دليل على الاحترام المطلق الذي يكنه الغرب لمباديء حقوق الإنسان، حتى أن إيطاليا تنظم الأن واحدة من أكبر المحاكمات في أوروبا منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية ضد مختطفي الشيخ المصري، الذي تولى الدفاع عنه محامي الجماعات الإسلامية المتطرفة منتصر الزيات. والأمر المثير للتعجب هنا هو أن الحانقين على الغرب والقائمين على عمليات غسيل المخ المشار إليها لا يعترفون إطلاقاً بأية مظاهر لكراهية المسيحية أو لاضطهاد منظم تمارسه حكومات وشعوب ضد مسيحيي الدول العربية والإسلامية على الرغم من أن مظاهر اضطهاد المسيحيين هذه تعد أكثر وضوحاً لأصحاب البصيرة من شمس يوم صيفي صحو.


لقد ثار في الأونة الاخيرة عدد من المسلمين في العالمين العربي والإسلامي بسبب منح الكاتب الهندي الأصل البريطاني الجنسية سلمان رشدي، صاحب رواية آيات شيطانية التي أثارت ردود فعل هستيرية في العالمين العربي والإسلامي، وسام فارس البريطاني الذي تمنحه سنوياً الملكة إليزابيث لعدد من الوجوه اللامعة في بريطانيا بمناسبة عيد ميلادها. وعلى الرغم من أن منح سلمان رشدي الوسام لم يقصد به تكريم الرواية المثيرة للجدل أو تكريم مواهب وقدرات الكاتب الروائية والأدبية، وإنما بتقديري قصد به تكريم مبدأ حرية الرأي الذي يلتزم به الغرب بشكل مطلق، وكذا تكريم المعركة التي يخوضها العالم المتحضر ضد قوى الظلام والتخلف والتذمت، إلا أن العالمين العربي والإسلامي لم يمررا الأمر من غير أن يطبعا بصمتيهما الرجعية عليه. فهاج العديدون وماجوا متهمين الغرب يكراهية الإسلام والمسلمين. ويبدو أن الهائجين نسوا أن حالة سلمان رشدي، وليست شخصيته، أصبحت لها أهمية كبيرةً في العالم الحر لسبب بسيط وهو أن عدداً من المباديء التي يحترمها ويجلها وينحني لها الغرب تجسدت في هذه الحالة، ومن أهم هذه المباديء الإيمان المطلق بالحرية، والتمرد على القيود الفكرية والأيديولوجية، وتحدي ومقاومة القوى الرجعية. ومرة أخرى أكرر أن أي احتفاء بسلمان رشدي لا يتم لشخصه الذي ربما ما سمع به احد لو لم تصدر بحقه فتوى الإمام الخوميني بإهدار دمه.


لست هنا في معرض الحديث عن صحة قرار ملكة بريطانيا بتكريم سلمان رشدي من خطئه، كما أنني لست بصدد الدفاع عن أو تبربر ما ورد برواية آيات شيطانية الخيالية، التي لم أقرأها بالطبع، ولكني بكل تأكيد أحاول الدفاع عن مبدأ حرية الرأي الذي لولاه لعاد العالم إلى عهد القرون المظلمة، كما أنني أحاول توضيح الفارق بين الأعمال الروائية الخيالية، حتى ولو كانت سيئةً، والأعمال والفتاوى التحريضية الإجرامية التي تتسبب هي إهدار دماء برئية؛ تلك الاعمال والفتاوى التي يمتليء بها العالمان العربي والإسلامي. لقد كتب سلمان رشدي روايته التي أغضبت المسلمين حول العالم، ولكن الرواية لم تتسبب في إهدار دماء بريئة كما يحدث باستمرار من جراء الفتاوى الإرهابية التي تصدر عن رجال دين متطرفين والتي تستبيح دماء المفكرين والكتاب والمسيحيين واليهود لا لشيء إلا لاختلافهم في الرأي أو العقيدة. ولعل الفارق بين العمل الذي لا يهدد سلامة الآمنين والعمل الإجرامي الذي يتسبب في تهديد الأبرياء هو الخط الذي يفصل بين ما يقبل به الغرب وما يرفضه. وفي هذا الإطار يسمح الغرب بالأعمال التي تنتقد الأديان بما فيها اليهودية والمسيحية والإسلامية حتى وإن كان في ذلك تحدي لمشاعر المتدينين. ولعل رواية 'آيات شيطانية' تأتي في هذا السياق حتى وإن اتسمت برأي الكثيرين بالرداءة.


بالأمس القريب أدان بعض الكتاب المسلمين الغرب لتكريمه الكاتب سلمان رشدي، متهماً إياه بالازدواجية لتكريم رشدي في الوقت الذي يعاقب فيه المؤرخ البريطاني دايفد إيرفينج على إنكاره للهولوكوست. لست متأكداً إن كان الكتاب عاقدي المقارنة مقتنعين بما كتبوا، لأن المقارنة بين الامرين في غير موضعها على الإطلاق. فرواية رشدي الإبداعية، التي أصبحت تمثل للعالم الحر مبدأً مقدساً وهو احترام حرية الرأي، هي رواية خيالية سمح بها الغرب لأنها تخلو برأيهم تماماً من التحريض والحقد والكراهية. أضف إلى ذلك فقد تعلقت الرواية بما هو مقدس لدى البعض الذي هو غير مقدس لدى البعض الأخر، وهو الأمر الذي جعل هذا المقدس باستمرار عرضة للنقد. ولا ينبغي أن يغيب عن الذهن هنا النقد الذي يوجهه الغرب على الدوام للمسيحية وعقائدها. أما بالنسبة لإنكار إيرفينج لحقيقة تاريخية كالهولوكوست فهو لا يعد أبداً عملاً إبداعياً كرواية آيات شيطانية، ولكنه كان برأي الغرب تحريضياً ضد الأقلية اليهودية في اوروبا التي عانت اضطهاداً بشعاً من النازيين خلال فترة الحرب العالمية الثانية.


لم يكن الهجوم الاخير على الغرب إلا بغرض الاستمرار في مساعي تكبيل حرية الرأي ليس فقط في البلدان الإسلامية، ولكن في البلدان الغربية أيضاً. ولعل جميع ذوي البصيرة يدركون تماماً مواقف الإسلاميين والمتأسلمين من الحريات العامة وبخاصة حرية العقيدة وحرية الرأي، لذا لا تدهشني مواقف المتطرفين في إيران والسعودية ومصر ولبنان وغيرها من البلدان الإسلامية التي لا تحترم ولا تقدر الحريات، ولذا لا تدهشني الازدواجية التي تعامل بها المتطرفون مع قضايا اضطهاد المسيحيين في البلدان الإسلامية. المتطرفون يسعون بشكل محموم لإلغاء دور العقل وقتل الإبداع وتضييق الخناق على كل من ينطق بما يتعارض مع مواقفهم رغبة منهم في توجيه المجتمعات الإسلامية في اتجاه واحد لا يعلو فيه صوت فوق صوتهم ولا ترتفع فيه قامة أعلى من قامتهم. ومن هذا المنطلق جاءت على سبيل المثال لا الحصر تصريحات الدكتور محمد سليم العوا الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين التي ادعى فيها أن وجود علامة الصليب فوق الكنائس وعلى الصدور يؤذي مشاعره ومشاعر المسلمين. وتحقيقاً لغرض الأحادية الإسلامية يقوم المتأسلمون في العراق بالتخلص من المسيحيين، ويقوم متطرفو مصر ببرفض بناء وتجديد الكنائس، ويقوم إرهابيو الجزائر بالتخلص من مبدعيه، ويقوم مسلمو نيجيريا وأندونيسيا بقتل من لا يعتنقون الإسلام بهما.


لست نبياً لأعلم المستقبل، ولكني متأكد من التأثير المدمر لعمليات غسيل المخ التي تقوم بها حكومات ومنظمات وهيئات إسلامية على عقول الشباب المسلم. التطرف الأحمق يزداد يوماً بعد يوم، والإرهاب الأعمى ما عاد احد بمأمن منه، ومبدأ الأحادية الإسلامية بدأ يعرف طريقه إلى المزيد من البلدان في العالمين العربي والإسلامي. ففي العراق هاجر معظم مسيحييه، ولم يعد يبقى به سوى الفقراء ممن لا إمكانات لديهم للمغادرة. وفي لبنان لم يعد حال المسيحيين ينبيء بالخير بعد تهميشهم وانتشار العمليات الإرهابية ضدهم وضد مفكريهم وممتلكاتهم. وفي مصر تزداد الامور تعقيداً بشكل يدعو للحزن على بلد كان يوماً منارة للحضارة. وها هي أيادي التطرف والإرهاب تمتد إلى العالم الغربي بغية إجباره على الاستسلام لقوى الظلام. لقد سقط الكثيرون من المسلمين في فخ ازدواجية المعايير حين قرروا تبرير إهدار دم كل من يظنون أنه يتناول عقيدتم في الوقت يبررون فيه الهجمات الشرسة على عقائد وأرواح الأخرين. بقي أن نقول ليت المسلمين يعاملون الأخرين كما يودون أن يعاملهم الأخرون حتى ينصلح حال البشرية، وحتى تتوقف أنهار دماء الأبرياء التي تجري دون علة في بلدان المسلمين.
مع محبتي لكل مسلم معتدل لا يتعامل مع المواقف بازدواجية.

جوزيف بشارة