القصص والحكايات التي يزخر بها التراث الشعبي تنطوي على حكم وعبر ودروس كبيرة وبليغة تركها لنا الإجداد قبل مئات أو آلاف السنين،الكثير منها ما زالت تتطابق مع مفردات حياتنا اليومية. وسواء كانت تلك القصص والحكايات حقيقية حدثت في أيام من التاريخ، أو كانت مجرد حكايات مصاغة للتعبير عن حكمة أو موعظة يستفيد منها الإنسان. بل أن بعض مؤلفي تلك الحكم والأمثال لجؤا الى طرق مبتكرة لإيصال أفكارهم الى الآخرين مثل التحدث بلسان الحيوانات كما في رائعة إبن المقفع ( كليلة ودمنة) التي تحتوي على الكثير من الحكم العظيمة ألفها الكاتب بأسلوب ممتع على لسان شخصيات حيوانية، فقدم لنا جمهرة من الحكم والأمثال البليغة ستبقى الى أبد الآبدين محفورة في ذاكرة أجيالنا المتعاقبة.
ويبدو لي أن الرقيب كان له وجود في زمن ذلك الكاتب المبدع، فإضطر الى إبتكار شخصيات حيوانية للتعبيرعن آرائه التي كانت متمحورة بالأساس حول الملك أو الأمير، كما يحدث اليوم لنا، فالكثيرون منا يلجؤن الى التنفيس عن كرههم للحكومات الحالية بسب وشتم الحكومات السابقة، فالحكومات لا تختلف بعضها عن بعض والكل في الهوا سوا، وهناك من يسب حكومات دول الجوار التي قد يكون بينها من هي أكثر ديمفراطية من حكومته القمعية؟!. لا بل يلجأ البعض منا أيضا الى سب الولايات المتحدة مثلا وهي زعيمة الديمقراطية في العالم، في الوقت الذي يرزح هو تحت نير العبودية والإضطهاد في بلده؟!. وهناك أيضا من يعلق كل إخفاقات حكومته أو نظامه على شماعة الإمبريالية والصهيونية، من دون أن يحسب أن العجز في حكومته وليس في دول إمبريالية، فإسرائيل الصهيونية ليس لها يد في إنفصال قطاع غزة عن الضفة الغربية، وإنقسام حكومة ( الوحدة الوطنية) برئاسة حماس الى شطرين، حتى لو سلمنا بوجود يد لإسرائيل في هذا الإنقسام، فإن الفلسطينيين يتحملون مسؤولية الكارثة التي حلت بهم بسبب تسهيل إمرارهم للمؤامرات الصهيونية.
على كل حال لكل منا طريقته وأسلوبه في التعبير،وكذلك للحكماء والواعظين الذين تركوا لنا آثارا شاخصة من نوادر الحكم والأمثال والدروس البليغة في الحياة من خلال مؤلفاتهم.
لا أتذكر أين قرأت هذه الحكاية التي ظلت راسخة في ذاكرتي منذ سنين طويلة من دون أن أعرف مصدرها، لكنني طالما رددتها على مسامع الأخرين في المناسبات التي تستدعي ذلك، لأنها تنطوي على حكمة بالغة تتطابق مع مفردات الحياة الإنسانية في كل عصر..
ولا أريد الإطالة فسأرويها للقاريء الكريم عله يستنبط مثلي الحكم البليغة من هذه الحكاية التي أنقلها من الذاكرة من دون معرفة مصدرها، ولكنها تبقى مروية في التراث الشعبي.
تقول الروايةquot; أن الله عزوجل عندما خلق الخلق قدر لكل إنسان وحيوان عمرا لا يتجاوز الثلاثين سنة..وعندما صدرت الإراداة الإلهية بهذا المضمون عمت الفرحة أرجاء الأرض والسموات السبع، وجرت إحتفالات عظيمة مشتركة بين الإنسان والحيوان في الخلق الأول بهذه المناسبة..
وتستطرد الرواية، أن الثعلب الماكر ذهب الى الحمار ورأه فرحا سعيدا بهذا العمر المقدر له، وخاطبه قائلا: أراك سعيدا يا حمار بهذا العمر المقدر لك؟. فأجابهquot; طبعا.. ثلاثين سنة عمر طويل نسبيا لحيوان مثلي سأنعم خلالها بالسعادة لثلاثين سنة.. فقال الماكرquot; أما أنت حمار بصحيح، قل لي أولا ما هو عملك؟. أجابه الحمارquot; أحمل الأحمال وأذهب في الأسفار، أصعد الجبال وأخوض الأنهار.. فقال له الثعلبquot; يا حمار أراك فرحا بهذا العمر المقدر لك وأنت كل عملك في الحياة أن تحمل أحمال الآخرين، وتضرب بالسوط عندما تسقط تلك الأحمال، ألا تكفيك خمسة عشر سنة من الذل والمهانة وحمل أثقال الآخرين، إذهب وراجع ربك لينقص من عمرك خمسة عشر عاما يكفيك ما أنت فيه من العذاب الأبدي!!.
فعلا راجع الحمار خالقه وطلب منه أن ينقص من عمره خمسة عشر عاما. فنادى منادي في السماء قد نقصنا من عمر الحمار خمسة عشر سنة فمن يريد أن نضيفه الى عمره، فقال الإنسان quot; أناquot;؟!!. فأضافه الله الى عمر الإنسان فأصبح يعيش 45 سنة..
ثم ذهب الحمار الى الكلب ورآه أيضا فرحا مستبشرا بهذا العمر، فوسوس له وقالquot; أراك فرحا بالعمر المقدر لك يا كلب؟. فأجابه quot; طبعا، فسأنعم بلذائذ العظام لثلاثين سنة. فقال له الماكر الحيالquot; أما أنت كلب إبن الكلب بصحيح، قل لي هل تجيد عملا غير حراسة أبواب الناس؟. أجابهquot; هذا هو عملي؟. فقالquot; إذن ألا تكفيك 15 سنة وأنت مشدود بالحبال أمام بيوت الناس تنبح بوجه كل سارق أو غريب، وتحرس البيوت وأصحابها نائمون على أفرشتهم الوثيرة، هل هناك ذل أكبر من هذا، إذهب وراجع ربك لينقص من عمرك 15 سنة!. فذهب الكلب ورجا ربه أن ينقص من عمره 15 سنة يكفيه النباح طوال خمسة عشرة سنة فقط. فنادى منادي من السماءquot; قد أنقصنا من عمر الكلب 15 سنة فمن يريد أن نضيفه له؟ فصرخ الإنسانquot; أعطوني إياه؟!!. فزيد على عمره الـ45 فأصبح مجموع عمره 60 سنة..
ثم ذهب الثعلب الى القرد ورآه ينط ويقفز فرحا سعيدا بالعمر المقدر له. فخاطبه قائلاquot; أيه يا قرد أراك سعيدا مستبشرا بعمرك المقدر. فأجابهquot; وكيف لا وأنا سأشبع من الفرح والمرح فوق الأشجار، آكل الموز وأطايب الأثمار. فقال الثعلبquot; قل لي أيها القرد القبيح الوجه ما هو عملك غير أن يتلاعب بك الإنسان ويجعلوك أضحوكة أمام الناس في الشوارع والسيركات ويشبهون أقبح خلق الله بك؟ فقال القردquot; لهذا خلقت!. فقال الثعلبquot; إذن ألا يكفيك ما أنت فيه من القشمرة والإستهزاء بك في الشوارع والتلاعب بك لتكون مسخرة أمام الناس، أيعجبك هذا لثلاثين سنة، إذهب الى ربك وأطلب منه أن ينقص من عمرك 15 سنة، يكفيك ما أنت فيه من الدمامة والبشاعة والسخرية بك. فذهب راجيا ربه أن ينقص من عمره 15 سنة. فنادى منادي في السماء: من يريد أن نضيف له 15 سنة من عمر القرد؟ فهتف الإنسانquot; أناquot;؟!! فزيد على عمره الستين وأصبح 75 سنة، وهذا معدل ما يعيشه الإنسان في معظم العصور.
وتستكمل الرواية، أن الإنسان يعيش عمره الحقيقي كإنسان لحد أن يبلغ الثلاثين سنة.. وبعد ذلك سيتزوج ويكون مسؤولا عن زوجة وأولاد وبيت، فيعيش لحد خمسة عشرة سنة حياة الحمار، حاملا أكياس الرز والسكر وأقفاص الفواكه والخضروات، يوم نفط ماكو، يوم المضخة تحتاج الى التصليح، يوم المبردة توقفت خذها الى الورشة، هكذا يعيش حياته الى أن يبلغ الخامسة والأربعين!!.
من عمر الخامسة والأربعين حتى يبلغ الستين تتحول حياته الى حياة كلب الحراسة، حيث سيكبر الأولاد والبنات وسيكون مسؤولا عن متابعتهم، أين ذهبوا ومع من جلسوا، ولماذا تأخروا.. أقعد يا ولد لا تخرج في الليل. وأنت يا بنت لا تذهبي الى بيت الجيران، وأنت يا إمرأة دعك من الجلوس أمام الدار. وهكذا دواليك!.
وفي سن الستين حتى يبلغ أرذل العمر يعيش الإنسان حياة القرد. حيث سيصبح عجوزا مقعدا يلعب به الأطفال والأحفاد.. جدو إحكيلنا بعض الحكايات والطرائف.. جدو أنت دقة قديمة.. جدو أخفض صوت الراديو لنسمع هيفاء وهبي!!.
هذه هي دورة الحياة ولا أدري أيها القاريء الكريم بأي عمر أنت الآن، وأي مرحلة من حياتك تعيش، مع إحترامي لكل القراء والقارئات اللاتي يشملهن ما يشمل الرجال، فلقد خلق الله الذكر والأنثى من نفس واحدة.
شيرزاد شيخاني
التعليقات