لم تكن النخب العربية فاقدة للرهان على مجتمعاتها كما هي الحال اليوم. فقد أجلت هذه النخب ولازالت تؤجل كل ما يتعلق بتحريك الأوضاع الراكدة تحت أقدام النخب والعائلات الحاكمة من أجل تبني مشروع واضح لإخراج الدولة المعاصرة العربية الهشة أخراجها من براثن السلطة ومن فمها أيضا حيث استطاعت أن تبتلع هذه السلطة كل وظائف الدولة وأجهزتها ومغانمها وقدرتها على توزيع الثروة الاجتماعية بطريقة تضمن لها استمرارية الإنتاج السلطوي للمجتمع والدولة معا! لأنه بدون المجتمع والدولة لا تجد هذه السلطة أرضا وبشرا تحكمهم. وهذا الموضوع هو الذي يجعل في ظل أوضاع عالمية وأقليمية وعلى مدار أكثر من ستة عقود من الزمن أن تصبح السلطة هي الدولة وهي المجتمع ( الاستثناء في ذلك كانت منذ البدء دول الخليج ) فالليبرالية الاقتصادية هي التي كانت سائدة ومازالت واعتمدت النخب الخليجية في هذه المصادرة على العائد النفطي. وهذا ما نلمسه الآن في دول الخليج من وجود لنويات مجتمع مدني فعلي، ولايكفي القول للتدليل على ما نقوله أن الإعلام العربي عموما بات خليجيا فقط لأن الأخوة في الخليج يمتلكون النفط! فهذا سبب غير كاف والدليل أيضا والدامغ: أن القذافي يمتلك موردا لايقل شأنا بل أكثر مما تملكه بعض دول الخليج ومع ذلك نجد أن علاقة النخب الليبية بالإعلام تكاد تكون شبه معدومة ماعدا دعمها لصحيفة أو أثنتين. والدليل الآخر أن معظم وسائل الإعلام الخليجية هي قطاع خاص وإن كان للسلطات هنالك دورا رئيسيا لكنه ليس كليا كحال الإعلام في سورية وليبيا والعراق صدام سابقا. ولازالت هذه النخب التي وقعت فريسة لبراثن التبادل البيني بين النخب العربية الحاكمة. التبادل البيني في تنميط المجتمعات العربية عموما وفي تبادل المصالح والنفوذ والكراهية في أحيان كثيرة. لنلاحظ مثلا أن النخب في البلاد العربية الكثير منها يراهن على سلطة مثل السلطة السورية لاستمرار مشروع ما يسمى الممانعة للغرب. كما كان الحال من قبل رهانا على صدام حسين. وهذه النخب رغم كل الخراب لم تحاول أن تقوم بمراجعة ذاتية ونقدية لما كانت تحمله من أيديولوجيات. سقط صدام اتجهوا إلى الأسد بعد أن طردنا القذافي شر طردة من ملكوت مشروعه المقاوم والممانع. والآن يتجهون نحو حماس والمقاومة العراقية ـ التي تنضح بالإرهاب وتنضح بأجندات السلطات الأقليمية الأكثر عداءا للإنسان العربي وحقوقه. وما فعلته حماس في معركتها لتحرير فلسطين من الفلسطينين جعل هؤلاء في حالة ارتباك حقيقي. ولكن هنالك جاهزية سياسية وأيديولوجية ونفسية تجعلنا دوما نرمي بأعباءنا على الغرب عموما والأمريكي خصوصا. فلو نظرنا جديا للوحة النخب العربية لوجدناها في غالبيتها تراهن على الخارج! على سبيل المثال النخب السورية كانت تراهن على السوفييت ثم انقسمت حيال هذا الأمر ومنها من كان يراهن على مصر الناصرية، ومنهم من كان يراهن على صدام ومن ثم على المقاومة الفلسطينية: والآن تراهن هذه النخب على المقاومة العراقية والفلسطينية وممانعة السلطة السورية لمشروع الشرق الأوسط الأمريكي. وإذا كانت هنالك بعض النخب التي تراهن على الأمركة ولازالت رغم كل ماحدث فهي تعتمد في قراءتها على أن المجتمعات العربية قد اضمحلت فيها أية روح للمقاومة لهذه السلطات المتغولة: وهذا صحيح ولكن أولويات هذه النخب التي تسمى ليبرالية باتت هي أولويات داخلية: تغيير النخب الحاكمة. وهذه الأولوية صحيحة تماما من وجهة نظري في بعض البلدان في المنطقة. ولكن هذه النخب الضعيفة التواجد لم تستطع في الحقيقة أن تكون على قدر من المسؤولية التي يتطلبها موقفها من قراءة عولمية للتاريخ، والذي لا يعود إلى الخلف وليس مطلوب منها الدفاع عن السلوك الأمريكي في السراء والضراء. والمثال الأكثر سطوعا الآن ما يجري في لبنان:
إن مطلب الأكثرية واضح هو الاستقلال عن النظام الأمني السوري اللبناني! والقوى التي تمانع هذا الأمر أيضا واضحة ومع ذلك لازلت تجد هذه النخب تسارع للبحث عن كل شاردة وواردة من شأنها إجهاض المطلب اللبناني في الخروج من دائرة نفوذ النخب الأمنية السورية. وسأضرب مثالا ربما يبدو خارج السياق:
السيد وليد جنبلاط عندما كان صديقا للسلطة في سورية لم تتعرض له هذه النخب بالنقد قياسا بما يتعرض له الآن. وفي الإجمال نستطيع القول:
إن النخب الحاكمة تراهن في ديمومتها على علاقتها مع الخارج. والنخب المعارضة أيضا كذلك الأمر كل منها له خارج يراهن عليه:
نخب تراهن على خارج عربي أو إقليمي، ونخب تراهن على خارج غربي عولمي، ونخب تراهن على خارج غربي مناهض للعولمة. إنها مشكلة المجتمعات المفوتة في الحقيقة. وألأحداث التي تجري في المنطقة توحي بما لايقبل الجدل بأن الاستعداد للعنف هو وليد هذا التفويت والغياب عن تقرير المصير بوسائل حضارية. العقلانية غائبة عن المجتمعات العربية. العقلانية بما هي ممكنات العصر وروحه.
والغرب في أولوياته لازال هنالك تبعات لعلاقة ذات ديمومة مع النخب الحاكمة دون الأخذ بعين الاعتبار مجمل سلوك هذه النخب إزاء قضايا حقوق الإنسان ودولة القانون والمؤسسات. إن الغرب في بعض مصالحه يسمح لهذه النخب بأن تعيد توزيع ثروة المجتمعات المفوتة بطريقة غير قانونية وغير مشروعة ولا تعود بالنفع على مجتمعاتنا في الحقيقة. فقد أصبحت اللوحة النخبوية مزرية: علمانيون يدافعون عن الإرهاب في العراق وفلسطين! قوميون عرب يدافعون عن الأجندة الإيرانية. والكثير من أجزاء وعناصر هذه اللوحة يشير إلى نتيجة واحدة:
المجتمعات المفوتة لا تنتج سوى نخب مفوتة.

غسان المفلح

لقراءة مقالات اخرى في ايلاف