مهمة اللثام الأصلية كانت، مصد يحمي وجوهنا بوجه هوج ريح الصحارى وما تحمله من ذرات رمل وغبار. لكن، لأسباب تاريخية وغير تاريخية، منها المعروف ومنها المجهول، انتقل من وظيفته الأصلية حماية وجه الملثم من الريح، إلى وظيفة فرعية؛ إعجام الوجه الحقيقي لسلوك الملثم. لقد تحول إلى لثام سلوكي.


أحد لا يعرف شيئاً حقيقياً عن أحد. كل منا يحمل لثامه حيثما ارتحل ومنا من لا يستغني عن اللثام حتى وهو في بيته مع زوجته وأولاده. الزوج يلثم سلوكه بوجه زوجته وهي تفعل الفعل نفسه. وصولاً بالطبع إلى اللثام الأكبر، لثام الحكام. حكامنا يلثمون قمعهم بلثام الدين والقومية والفضيلة والإخلاص والحكمة والشجاعة وبكل أضداد مفردات سلوكهم الحقيقي وعلى طول تاريخنا والمحكومون يلثمون سلوكهم بكل ما من شأنه أن يحميهم من قمع السلطان. حتى بات من المستحيل على أي باحث أو فضولي معرفة باروميتر السلوك الحقيقي لبشر هذه البقعة من الأرض وماذا يريدون..!!


الأمر الذي جعل قصة المضاد الحيوي للثام وهو الشفافية، قصة مأساوية وعلى غاية من الشذوذ ونحن نمارسها. معلوم، أن إدمانك على ممارسة الشيء يجعلك حريف وماهر، بينما تكون مبتدأ وأحياناً مغلوباً على أمرك وأنت تجرب شيئاً لا عهد لك به.


قيل للعراقيين وما أن خرجوا من زنزانة اللثام البعثي؛ أن دواءكم في الشفافية. أنها وصفة مجربة ونتائجها مضمونة، خصوصاً حين تؤخذ مع الديمقراطية وعلى الريق. ومنذ ذلك التاريخ وليومنا هذا ونحن في حيص بيص وريقنا ناشف وحالتنا حالة.


دخلنا في مخابر تجريب الشفافية. وكما قال أحد الشعراء؛ من التجريب ما قتل..!! لقد تكشف لنا بعد إماطة اللثام البعثي؛ أن هذا اللثام لم يكن إلا لثاماً كبيراً يخفي في طياته أنواع أخرى كثيرة من الألثمة. ولكل لثام عشائره وطوائفه الواقفة على أهبة الاستعداد وهي ملثمة تدافع عن شرف اللثام.


من الأمثلة على التجريب الذي نحن فيه؛ تلك القناعة الراسخة رسوخ الجبال لدى موظفي الدولة، من الحاجب إلى الوزير، على أن الأموال التي سرقوها والتي ستسرق لاحقاً بإذن الله، لا يصح شرعاً إدخالها في كشوفات مفوضية النزاهة تحت بند الشفافية، بل يمكن إدخالها إذا كان لا بد من إدخالها؛ تحت بند آخر؛ يكون عنوانه (هذا من فضل ربي) خصوصاً وأننا بلد مسلم..!! حتى وصل الأمر بالبرلمان؛ أن يجلبوا الرجل صاحب مفوضية النزاهة ويضعوه أمام محاكمة قاسية، بل منهم من طالب بإحالته إلى القضاء.. ومن يعلم ربما هناك من يترصد الرجل لقطع رأسه!!


ومن الأمثلة الأخرى؛ إصرار مؤسسات الدعم الدولي والاحتلال الدولي ومعها الحكومات الثلاثة التي توالت على حكمنا، على العمل بأقصى جرعة من الشفافية مع الملثمين النازلين بالمواطنين ذبحاً عشوائياً، بالسيارات والبهائم المفخخة، المحلي منها والمرسل من دول الجوار. التزموا على الدوام بإعلام الملثمين بالنوايا قبل الخطط. مثلما التزموا بإعلام دول الجوار بكل ما من شأنه رفع الروح المعنوية لأجهزة مخابراتهم وجيوش (قدسهم) الملثمة، معلوم، أن لكل نظام جيش لتحرير القدس. قبل البدء بمشروع ما، يخرج علينا ناطق رسمي يبوح بكل الإحداثيات التي ستعين الملثمين ومن ورائهم دول جيوش القدس على تخريبه.


أما مثال الخطة الأمنية الحالية، فهذا مثال يجب أن يدرس في كليات ومعاهد الشفافية العالمية. لقد نوقشت تفاصيل الخطة قبل البدء بها بنصف سنة، أمام وسائل الإعلام المرئي منها وغير المرئي، ثم نوقشت وبشفافية عالية في الكونغرس الأمريكي، بين لجنة (بيكر-هاملتون) الأمريكية ولجنة (حجي مشك - زاير سبوس) العراقية.. ثم نوقشت وبمنتهى الشفافية في البرلمان، بين رافع وكابس من كتل البرلمان ولكل كتلة ملثميها المستهدفين بالخطة.. ثم نوقشت مع دول الجوار، نعم، الجوار ذاته (يا مسهرني).. ولم يبق للحكومة غير أن تناقش تلك الخطة مع الملثمين أنفسهم.


الأكثر من هذا وذاك وإيغالاً بالشفافية إلى ما وراء حدودها القصوى، أصبح لكل وزارة من وزارات التحاصص، ناطق رسمي وقناة فضائية. نواطق شفافة جداً. لكنها لا تنطق بشؤون وشجون ملثميها الذين تمثلهم، بل تبوح بأسرار الحكومة ومؤسساتها الأمنية. كل يوم يطل علينا أحدهم، بعد البسملة والتحوقل والتعوذ من الشيطان والإتكال على الله - بالمناسبة كلهم يبسملون ويحوقلون ويتكلون على الله باستثناء نواطق قوات الإحتلال- يبدأ السيد الناطق باستعراض تفاصيل الخطة، أماكن الهجوم الأول والثاني والثالث، عديد القوات المهاجمة لكل قاطع مع هامش أصر كل نواطق الشفافية على عدم نسيانه وكأنه مسك الختام، هامش يأتي بعد مفردة (لكن) الخطيرة. يقول الهامش: لكن، قواتنا يا أخوان ليست بكامل الجهوزية بعد، ثم أننا لا نستهدف القضاء على الإرهاب كلياً.. بل التخفيف منه.. وكل شيء بإذن الله..


والآن هل هناك شفافية في العالم كله شرقاً وغرباً شمالاً وجنوباً، أرق وأخف وأحلى من شفافيتنا..!؟

كريم كطافة