يعزو كثير من بلاشفة اليسار المهزوم الأوضاع الراهنة، في ما يسمى بالعالمين العربي والإسلامي، من فقر واستبداد وتخلف إلى الأنظمة القائمة في المنطقة، ويحملونها مسؤولية كل ما آلت إليه من أوضاع مهينة وبائسة. ولسنا أبدا في معرض تبرئة الأنظمة من مسؤوليتها التاريخية للنهوض الوطني، إلا أن عزل التخلف والاستبداد والقمع، عن شرطه التاريخي، وظرفه الموضوعي، أيضاً، لهو تجاوز كبير، ومطب خطير يقع فيه أولئك البلاشفة من كتاب الطلاسم والتعاويذ التي لا تساهم في حلحلة الأوضاع، ودفعها للأمام، بقدر ما تساهم في تأزيمها وتعقيدها ودفعها نحو حضيض متزايد من التوتر والانحدار. فتكفير الكتاب والمفكرين وأصحاب الرأي، مثلاً، جار على قدم وساق في طول البلاد العربية والإسلامية وعرضها، منذ زمن بعيد. إذ يعيش معظم الكتاب والمبدعين في أحوال يرثى لها، ويعانون التهميش والإقصاء، فيما يتسيد اللصوص، وقطاع الطرق، والسحرة الدجالون، والجهلة، والمافيات معظم هذه المجتمعات المنكوبة. وارتبط الإبداع والفلسفة والتفكير بتهمة البدعة والزندقة في التاريخ العربي والإسلامي وحـُرّم التفكير الفري، وألغي وجود الفرد كلياً أمام فكر الجماعة وغريزة القطيع. ويعتبر تكريم أي مفكر أو مبدع خرقاً لما درجت عليه العادة ودأبت عليه القوانين. فالأصل هنا أن يهان المفكرون، ويسجنون ويسفهون، وتستباح دماؤهم، وينفون من الأرض، وتقطع رؤوسهم، ويصلبون، ويعلقون على أعواد المشانق، وتفقأ وتسمل عيونهم، ويكاد يكون هذا طقساً دينياً خالصاً، ومقدساً بآن، أورثنا إياه السلف الصالح، والحمد لله، على كل حال، والذي لا يحمد على مكروه سواه. وتكريم أي كان، هنا لا يتم إلا إذا توافق مع الثقافة السائدة، ثقافة السحر والخزعبلات والماوارائيات، والتغزل بسجايا ومزايا السلاطين والجلادين والخلفاء، وإذا غضب الله على أحد المنحوسين، وأتى برأي وفكر لا يروق للسادة المعصومين الأبرار، فسيجري له، طبعاً، تكريم من نوع quot;خاصquot; جداً، والويل كل الويل له، ولذريته من بعده.
ولا يمكن تفسير ردود أفعال العرب والمسلمين حيال الكثير من المسائل التي تعترض سبيل حياتهم، والتي لا يوجد قياس مثلها في تاريخهم، إلا بالخوف من المستجد والجديد والتغيير. وإن إدخال أية أنماط جديدة من التعاطي مع مختلف المعضلات والمسائل الشائكة، سواء بالسلوك أو التفكير، يحتاج إلى سلسلة طويلة من الإجراءات البيروقراطية الفقهية تنتهي عادة بالرفض والرفس والتخوين. وهذا ما يمكن أن نطلق عليه الحضارة فوبيا. هذه الحضارة فوبيا هي التي ترعب العرب والمسلمين وتجعلهم متوجسين من الأخذ بقيم الحداثة والحضارة لأنها ستأخذ بهم، وبمشروعهم السلفي والماضوي المستحيل، وإلى الأبد. وتعتبر فزعة العرب والمسلمين ضد تكريم سلمان رشدي من هذا الباب ليس إلا، وبغض النظر عن كل ما قاله في آياته الشيطانية، وعما إذا كنا نختلف، أو نتفق معه حيال ذلك. وهي، من وجهة أخرى، تأكيد لحشر الجماعات إياها لأنفها في كل شاردة وواردة، لنزوعها الغريب لتسييس أي فعل، أو حدث، وربطه بما يخدم إيديولوجيتها ومشروعها.
ورأينا الصريح، والواضح في هذا الصدد، إن الإسلام كدين وعقيدة وفكر، لا يجب أن يتأثر برأي لكاتب، أو مفكر هنا، أو هناك. وليس كل من يقول كلمة، أو رأياً يصبح قاعدة وقانوناً ملزماً ويكتسب المصداقية والمشروعية. ولا أعتقد أن رأياً واحداً وعابراً ممكن أن يهدد بقاء دين بالكامل ويعرضه للزوال إلا إذا كان ذاك الدين نفسه غير قابل للحياة ويتأثر بأي شيء وعرضة للهجوم والانتقاد والتشريح. وإذا كان المسلمون على تلك الدرجة من الثقة العالية بعقيدتهم quot;السمحاءquot;، فالأجدر بهم ألا يلتفتوا لأية أقوال تصدر من هنا وهناك ويعطونها، بالتالي، أي اهتمام. وألا يسمحوا لأحد بأن يستفزهم كل مرة ويظهرهم بتلك الصورة من التواضع وفقر الفكر والحال. وإن الأفعال، والتطبيق، والزمان، هو ما يحدد، ويعزز صوابية، أو خطأ، أي فكرة من الأفكار وقابليتها للبقاء والاستمرار. فالله العزيز المقتدر الحكيم الجبار، ومنطقياً، ليس بحاجة لمجموعة من الرعاع البدائيين لنصرة دينه على أعدائه quot;الكفارquot;. وغالباً ما يثبت العرب والمسلمون، وعبر غوغائيتهم المعهودة، وردود أفعالهم غير المدروسة والمتشنجة، تلك الصورة المرتسمة عنهم في الأذهان لا بل يكرسونها، ومشكورين، بكل نجاح وامتياز.
ومن هنا، فتكفير سلمان رشدي لرأي أبداه لا يستحق التوقف عنده، طويلاً، طالما أن هذه عادة مستفحلة في هذه المجتمعات منذ أن اجتاحها الغزاة البدو الأعراب قبل ألف وأربعمائة عام من الآن. فقد لاقى كثيرون من أصحاب الرأي الآخر، والتفكير الحر المتنور البعيد عن تابوهات الفقهاء، مصائر مفجعة ومؤسفة حين أرادوا تفتيح تلك العقول المخدرة بأمجاد، وسِيـَر وقصص السلف الصالح في تلك الأصحاح، وعبر آلية الرواة غير الدقيقة على أية حال. إن الحضارة- فوبيا التي يتسم بهم غالبية المسلمون تجعلهم يستشعرون، ويتحسسون من أي فعل فيه إنسانية، ورقي، أو تبجيل لقيمة الفرد في المجتمعات، ولا ينسجم مع موروثاتهم التي تلغي إنسانية الإنسان. والحضارة - فوبيا التي تتجسد يومياً في سلوك العرب والمسلمين هي التي تجعلهم يرفضون الحداثة، والقيم المعاصرة، والمفاهيم المستجدة، ويصرون على التمسك بقيمهم وعاداتهم ومفاهيمهم التي لم تتغير، ولا يمكن في الحقيقة تغييرها وطالما أنها اكتسبت قداسة، منذ ألف وأربعمائة عام، وبرغم ذاك الكم الهائل من التغيير والتجديد الذي طرأ على كثير من المفاهيم، والقيم، والمعتقدات والأعراف، وإصرارهم العجيب على أن ما شهدوه في تلك الفترة، وما قام به أولئك البدو الأعراب، هو ذروة التطور الحضاري والإنساني، وأوقفوا ساعة الزمن عنده، وعطلوها عن الدوران.
وغريزة القطيع وفكر الجماعة، والقبيلة والعشيرة والدروشة ما تزال تسيطر على السواد الأعظم من الناس، حيث تنعدم المراجعات العقلانية والمحاكمات. وتأليه وعبادة الأصنام والسجود لأولي الأبرار المنزهين في بروجهم العاجية، ورثة الله وخلفائه في الأرض، والذين لا يأتيهم الباطل من أي مكان، هي عادات متأصلة في سلوك هذه المجتمعات. فأن تقوم ملكة التاج البريطاني، ما غيرها، وبجلالة قدرها، بتكريم مجرد quot;هنديquot; مهاجر ومن أصول quot;أسيويةquot;، منح بكل يسر شرف الجنسية البريطانية، هو ما أثار حفيظة الغوغاء، ولا ينسجم أبداً مع تراث أصحاب المقامات والهامات السامية سليلي عبد شمس، وهاشم، وقحطان، الذين تروعهم مثل هذه البدع البذيئة، والذين ينكرون الجنسية على أبناء جلدتهم( فئة البدون ومنزوعي الجنسية تتفاقم في مختلف المجتمعات العربية والإسلامية بشكل لافت)، وهم(أولي الأمر) لم يتعودوا التعامل مع الكتاب والمبدعين إلا بالفلقات، والهروات، والزنازين المهجورة العزلاء والتسفيه والهزء والاحتقار والتجريد من المواطنة والجنسيات.
أعزوفة إهانة العرب والمسلمين التي يرددها بعض بائعي الأوهام تقود إلى كثير من الاستناجات المرة. فمن يستمع لهذه الادعاءات يعتقد أن العرب والمسلمين هم من أكثر شعوب الأرض تمتعاً بالكرامة، والغنج والدلال والحريات من قبل حكوماتهم والأوصياء عليهم والذين حرموهم من أدنى متطلباتهم الإنسانية، ولا يمنون عليهم إلا بالفتات من خيرات بلادهم ويعتبرونها هبات وعطايا ومكرمات من أصحاب الذوات المؤلهين الأوصياء. وأن تاريخهم وردي من بابه لمحرابه، وخال من الحيف والظلم والمذابح والاستبداد. وأن مستويات المعيشة والدخول والرفاهيات لديهم هي الأعلى في العالم قاطبة. وأنهم على مر تاريخهم كانوا ينعمون بالعدل ورغد العيش والازدهار. ولم يسبق لأحد أن نكل بهم أو أهانهم، أو جرح مشاعرهم وشبّح أمامهم وعربد ورقص على أشلائهم واستفزهم على الإطلاق. وليس في تاريخهم، ويا حرام، لا أبي جعفر المنصور، ولا السفاح، ولا الحجاج الذي أذاقهم المر والذل والمهانات وجرعهم السموم والفضلات. وأن حكامهم الأشاوس لا يتركون مناسبة إلا ويكرمونهم ويشعرونهم بعظمتهم وأهميتهم كمواطنين، ويعيشون في واحات من البحبوحة والنعيم والديمقراطية والملذات الدنيوية. وأن سلطات القمع والاستبداد لم تنهبهم، ولم تسرقهم، ولم تستبح حرماتهم، وتصفعهم بسياساتها، وقراراتها الإذلالية الرعناء يومياً عشرات المرات، وتمنع عليهم حرية التعبير والتمثيل الحر والكلام وتسد أفواههم ببساطيرها العسكرية وجزمات عسسها وخفرائها، وتكبل أعناقهم وحياتهم ورزقهم بقراراتها القراقوشية الحمقاء. والسؤال الأهم لماذا لا يشعرون بالمهانة من الفقر، والجهل، والدجل، والاضطهاد، والنهب، وأزمة السكن، والمرور، والمجاعات، وقلة الدخل، والبطالة، والأمية، والعنوسة، وفرض الأتاوات والخوات، والأوبئة الاجتماعية والفكرية والنفسية الفتاكة والمستشرية في مجتمعاتهم من طنجة إلى جاكرتا. ففي مقاييسهم واعتباراتهم العجيبة فإن أي بدوي أجلف وفظ، وما قام به في سالف الزمان، لهو أهم من كل ما قدمته البشرية من علماء ومبدعين ومفكرين وفنانين ورجال عظماء قدموا للبشرية خدمات جليلة لا توزن بميزان. ولماذا لا يشعرون بالإهانة حين تعامل المرأة بتلك النوعية الدونية والتمييز العنصري، وحين تستغل الطفولة، ومن أبناء المسلمين أنفسهم، أبشع استغلال من قبل أولي الأمر ويتاجر بها ورثة الله وخلفائه في سباقات الهجن وتعامل الطفولة البريئة كسلعة معروضة في الأسواق؟
لقد كان تكريم المبدعين، والفنانين، والكتاب، والعلماء هو أحد أهم العوامل التي أدت إلى نهضة الغرب، تلك النهضة التي جعلت القبائل والشعوب المتخلفة، تشعر بالدونية، والعجز عن اللحاق بركب الحضارة الغربية ومهما بذلوا من مجهودات. والإسلاموفوبيا هو برأيي خوف على الإسلام والمسلمين أكثر مما هو خوف من المسلمين، خوف من التجديد خوف من التغيير ومن التنوير الذي لا يقبل الخزعبلات والأباطيل. فلن يستطيع أحد الوقوف بوجه التطور والمد العولمي المتصاعد العظيم. وهو خوف عليهم، وليس منهم، بألا يستطيعوا الاستمرار في هذه العقليات والأفكار المتحجرة التي ستجعلهم يتخلفون عن الركب الحضاري وقد ينقرضون تماماً في مرحلة ما، ويعجزون عن التواصل مع الحياة ومع الآخرين. فاستمرار العرب والمسلمين برفض قيم الحداثة والتغيير والأخذ بأسباب الحضارة والقيم والمفاهيم الجديدة وتقبل، وتمثل كل ما توصلت إليه البشرية يعني، ولا محالة، استمرار تخلفهم، ودورانهم في نفس حلقاتهم المفرغة، والنفخ في ذات القرب المثقوبة التي لم تقدم لهم ما يفيد على مر السنين، وتركتهم على ما هم عليه من انحطاط وبشاعة وquot;تعتيرquot;. ويعني في النهاية، شيئاً واحداً وهو الحضارة فوبياً التي تلازمهم وترعبهم بشكل كبير وتتركهم في حال مربك من الذعر والرهاب والخوف الشديد.
نضال نعيسة
[email protected]
التعليقات