حين تتابع طبيباً يتكلم من إحدى شاشات العسكر والسحرة والجنرالات وأصحاب السلالات المقدسة الهابطة من السماء، وهو يحوقل، ويبسمل، ويتحمد، ويتعوذ ويتعبد، مخافة أن يتخطى حدود الصحراء وتابوهات الأعراب، وحين تراه يرد كل الحقائق والظواهر العلمية والإنجازات البشرية إلى قوى بدوية وخفية غيبية لا علاقة لها بالعلم والواقع، ولم تكن موجودة أو معروفة مطلقاً قبل الثورة الصناعية والاكتشافات العلمية الهائلة التي كانت بالمطلق من إبداع quot;والنصارى والكفارquot; واليهودي الخبيث إينشتاين، وأن كل هذا الذي يحصل من منجزات كان مطروقاً ومعروفاً مسبقاً، بفضل ووحي وإلهام من السماء، في تراث السيف والتفخيذ والأجداد، تدرك على الفور نوع الملكات العقلية التي يملكها، وحدود تفكيره وتفسيره للظواهر والأشياء، والحدود التي يقبع عندها ولا يبارحها من ألف وأربعمائة عام، وكم هو بعيد عن الطب والعلم والمنطق، وقريب من الدجل والشعوذة والسحر والهلوسات، ولم يبرح مضارب البدو الأعراب المشغولين بفقه الفرج، وفنون الجماع، وفوائد الإرضاع، ومزايا وسجايا إكسير البعير والجمال.

فعقله المحدود والممسوخ والواقف عن تخوم عملية الاستنجاء، والمسحور بأهمية الختان، لا يستطيع تجاوز حدود ثقافة تلك القوافل الرعوية الغازية والجائعة التي كانت تجوب الصحراء بحثاً عن الكلأ والصيد والماء. وتعلم عندها، تماماً، لماذا انهار التعليم والصحة، ولماذا تدهورت أحوال المجتمعات، ولماذا تقصف أعمار الناس في ريعان الشباب وتكثر الوفيات في المستشفيات طالما أن علية القوم، لا يتجاوزون حدود هذا الفكر ا لضحل الشاذ وطالما، أنهم حتى اللحظة يعتقدون بأن كل هذا التقدم والحضارة والازدهار، والنجاح في الحياة هو بيد البدو الرعاة وببركة بعض التعاويذ والطلاسم ودجل بعض الدعاة، وليس بيد العلم وإبحار العقل في المجاهل والمجرات وبتحدي عقيدة الموت والأمراض، الذي أوصل معدلات الحياة في الغرب واليابان إلى معدلات غير مسبوقة باتت تحول هذه المجتمعات إلى مجتمعات شائخة يسرح ويمرح بها كبار السن، وتحول هذا الإنجاز البشري العظيم الذي أطال عمر الإنسان بفعل العلم والطب وليس الطلاسم والتبرك بالأولياء والمقامات، إلى ظاهرة باتت تؤرق المسؤولين فعلاً في هذه البلدان برغم إيجابيتها المفرطة، ودلالتها العلمية الأكيدة البعيدة عن الأباطيل والضلالات التي يرددها الجهلة والسفهاء. وهنا تكمن الحكمة البدوية العظيمة في قصف أعمار الناس هنا في بحور الظلمات، لئلا يصبح آباؤنا عالة علينا وعلى مجتمعاتنا، ولذا لا بد من إصابتهم مبكراً بالجلطة والفالج وانفجارات الدماغ، وكي لا يكون لدينا تلك الظواهر الحياتية الكافرة التي يعيشها الغرب، وعدم التشبه، مطلقاً، بالنصارى واليهود الكفار، والعياذ بالله.

منظمة أطباء بلا حدود التي وصلت حدود العالمية والتي تقدم خدماتها الجليلة لمساعدة ضحايا الأمراض والأوبئة في جميع أنحاء العالم، وأسسها بعض الأطباء quot;الصليبيينquot;، تحاول أن تتخطى حدود بلادها لتنطلق للعالمية وتعيد الحياة للميؤوس من شفائهم، وترسم البسمة والأمل على وجوه المرضى من كل الأجناس، وبالمجان. أما منظماتنا، منظمات أطباء بحدود دونية ودموية جرعهم إياها الدعاة وشيوخ التكفير والقتل والإفتاء، تحاول أن تزرع الموت والهلاك، وتختطف الحياة من قلوب الشباب والأصحاء، وتقتل البسمة عند الناس، وتزرع الحزن والأسى والإيلام على شفاه الأطفال، وترسم الدمعة على وجوه الأيتام، والثكالى والأرامل في كل مكان. هذه هي الحدود الفهم والعلم القصوى التي تربى عليها هؤلاء الأطباء ويسمح لهم بالتحرك من خلالها، والأهداف التي يعيشون من أجلها، ويمنع عليهم تخطيها وتجاوزها، حدود عقول الفقهاء القرووسطيين الذين تسلطوا على هذه الأمم والشعوب وأحالوا حياتها إلى شقاء وخراب ودمار.

نعم لقد مسخنا العقل، وسمحنا للدجل والسحر والضلالات التي لا تقدم ولا تؤخر أن تعشش في حياتنا، وتجعلنا أقواماً هائمة وبائسة بسبب عدم جدواها وفاعليتها في التصدي لكثير من المشاكل الحياتية التي تعترضنا، والمعضلات المعيشية التي نواجهها والتي لا تعالج إلا وفق منهج علمي وواقعي ودراسات وإحصاءات. ولقد تحولت مدارسنا وجامعاتنا إلى بؤر شريرة لتخريج أنصاف المتعلمين، وأشباه الأميين، وأرباع المتنورين، المشبعين بالخرافات والأوهام والسخافات وتحتقر العلم والعقل وتزدري المنطق، وصارت مرتعاً للتطرف وتجميل وتبرير الإرهاب وماكينات لتفريخ القتلة، وحلبات للرقص والهتاف والزفاف والتمسح بأنظمة الاستبداد.


لقد أثارت حلقة الاتجاه المعاكس التي تناولت قضايا الشباب العربي، وكنت أحد ضيفيها، موجة عارمة من الضجيج والهياج والاحتجاج والاستنكار في صفوف القومجيين والمتأسلمين والعروبيين والنائمين في عسل المسلمات، وبائعي الدجل والأوهام الذين ترعبهم الحقائق ولا يحلو لهم إلا الكذب، ولا يصدقون إلا الرياء، ولا يحبون سوى النفاق بسبب ما طرح فيها من حقائق تفضح زيف ذاك الخطاب الدعوي التعبوي الكاذب المرائي الفضفاض. وكيف أن أرقام البطالة والأمية والعنوسة والدعارة والطلاق والهجرة والانهيار القيمي والمعرفي والانحطاط السلوكي، وجرائم الشرف والتغرير بالقصّر والفقراء لارتكاب جرائم الانتحار تحت يافطة الاستشهاد، ترتفع بمعدلات ملحوظة، وباتت تتفاقم بشكل ملحوظ يرعب جميع من يهتم بالشأن العام وتهدد بانهيار المجتمعات وزوال أوطان بكاملها من على الخرائط، وتحولها عن بكرة أبيها إلى كانتونات وغيتوهات للجرائم والحروب والطوائف والعشائر والقبائل وملاذات للقتلة واللصوص والمافيات. وكيف تحولت جامعاتنا إلى مراكز لتدجين الشباب وغسل أدمغتهم، ومسخ عقولهم بالخزعبلات، وليست أماكن لإطلاق العقل الجبار أو البحث والتجريب والاكتشاف. وها هو اليوم، ومع كل حدث، وتطور، ومع منظمة أطباء بحدود عقلية لا تختلف كثيراً عن عقول العصافير والفئران، يثبت الواقع، وبما لا يدع مجالاً للشك، الوضع المزري والبائس الذي آلت إليه الأمور في كافة المجالات وأنه لم يكن هناك تجن في أية أطروحات. وأن ما حصل حتى الآن ما هو إلا جزء يسير من الحقيقة القاتلة، ويشكل رأس جبل الجليد الظاهر، حتى الآن، وما خفي هو أعظم، حين ينفلت عقال هذه القطعان ممسوخة العقل، وهمجية الخيارات، ومحدودة الآفاق، وليست غزوة لندن، والمسجد الأحمر بآخر أمثلة على الإطلاق.

أطباؤنا موجودون وأتحفنا بهم المولى الكريم عز وعلا، ليس لهدم الأسوار والحدود وليكن عالمنا بلا قيود وأغلال وأية حدود، بل لإقامة كل الحدود، وأهم مهمة لهم هو وضع حد لحياة الناس الآمنين الأبرياء، وإقامة كل الحدود بما فيها حد السرقة، وحد الردة، وحد الزنا، وحد الحب، وحد التعايش والود.

نضال نعيسة
[email protected]