واقع مأساوي، هذا الذي يعيشه العراق بكل معاني الكلمة، واقع كنا نأمل منه تغييرا جذريا ان يحدث لصالح العراقيين بعد سقوط صنم الاستبداد في عام الفين وثلاثة، لضمان حياة حرة كريمة لكل فرد على أرض بلاد الرافدين، بعد أن حرم منه طيلة عهود طويلة من القمع والاستبداد السياسي للحرية والكرامة الإنسانية في ظل أنظمة الحكم المتوالية في بغداد من العهد الملكي الى العهد البعثي، وفي ظل غياب جوهري لأي بناء وتنمية حقيقية للإنسان العراقي.


ضمن هذا السياق، وفي ضوء الواقع الراهن للأغلبية الساحقة من العراقيين خاصة في المنطقة المحصورة بين الإقليم الكردستاني الفيدرالي وبين المحافظات الجنوبية، التي تتسم بأزمات أمنية كبيرة في ظل وجود تعقيدات داخلية عراقية وإقليمية كثيرة متداخلة لمقومات العنف المنتشر في هذه المنطقة، وفي ظل الأزمات الحياتية التي تعاني منها أهالي قرى وقصبات ونواحي وأقضية ومحافظات هذا الكيان الوسطي من العراق، التي تتسم بفقدان الخدمات الحياتية والمدنية والحاجات الأساسية للإنسان كأفراد وتجمعات سكانية، فإن أعمال الرئاسة والحكومة والبرلمان لا تتسم بأية جدية للخوض في تلك المشاكل والأزمات الحقيقية التي يعاني منها المواطنون، وبالعكس على ذلك فان هذه المراكز القيادية قد أدخلت نفسها في أزمة حقيقية مع القضايا الأمنية لعدم قدرتها حتى الآن من تحقيق النجاح والتأثير أو التخفيف من أعمال العنف والعمليات الإرهابية الجارية في هذه المنطقة، بسبب تركيزها الشديد على ضمان الجانب الأمني وإهمالها للجوانب الحياتية الأخرى، مما سمح هذا الظرف المصطنع ان يكون عاملا أساسيا مساعدا لينهب أموال ونفط العراقيين بحجة الفضاء على الإرهابيين، فيما ظلت الحكومة في جانب آخر على سبات عميق لا مساحة فيها لاختراق أصوات الشعب الجائعة آذان الرئاسة العراقية والحكومة والبرلمان، رئاسات تلج في نوم غارق وسط صرخات الفقراء والمساكين العراقيين الذين بدأت حياتهم بالرجوع الى عصور الماضي السحيق، رغم الدعوات والتأكيدات المتكررة للرئيس الأمريكي بظهور تغيير وتحقيق تحسن جزئي في الوضع الأمني، لكنه لا يزال يدور في حلقة فارغة فلا تأثير ولا فعل حقيقي للخطط الأمنية المتحققة للسيطرة على العنف والإرهاب الجاري في العراق.


في ظل هذا الواقع المؤلم، ما يهمنا في هذا الأمر، هو ظهور مظاهر غريبة، جدا غريبة وغير مألوفة، مرتبطة بعالم العنف والإرهاب في بلد الرافدين، متسمة بالقساوة والضراوة الشديدة في الواقع العراقي، مظاهر لا يمكن تفسيرها ولا تحليلها برؤية منطقية عادية لبواعث خلقها النابعة من مداخل دهاليز الشر لأنها جديدة حتى على تاريخ عالم الإجرام الذي شهدتها حياة البشرية منذ الأزل وحتى عالمنا الراهن، واغلب المظاهر متعلقة بالعنف الطائفي الساري أحداثها في المناطق التي تتسم تجمعاتها السكانية بالمذهبين الشيعي والسني، وأحد هذه المظاهر الخطيرة الموحشة والمتسمة بإجرامية همجية وإرهاب شرير قل نظيرها في واقع أحداث الحروب الأهلية التي أخذت مجراها في بقاع كثيرة من العالم، هو ظاهرة الجثث المجهولة التي أخذت تسجل حضورا يوميا في حياة البغداديين وفي حياة الكثير من أهلي بعض المدن العراقية في شمالها وشرقها وغربها، جثث عراقية لا تدري من أين تأتي ولا تدري الى أين تذهب، تطرح حضورها يوميا على شاشات الأخبار في ظل وجود خطط وبرامج أمنية حكومية كبيرة نافذة للقضاء على أعمال العنف والإرهاب في بغداد وفي غيرها من المدن، وكأن الفرد العراقي مرمي في رحى مجزرة يومية تذبح منه معدلات متوالية تنحصر بين 25-60 شهيدا يوميا بالاختيار العشوائي في أحياء ومناطق سكانية من مدن الوسط والشمال العراقي، وكأننا نعيش في عصر حكمت على الأغلبية الفقيرة من العراقيين أن تكون مرمية في حلبة لمصارعة همجية أمام أطراف معلومة ومجهولة حاكمة وغير حاكمة على هيئة ديناصورات ووحوش كاسرة لا تملك ذرة من الرحمة ولا ذرة من الإنسانية، جل هم هذه الوحوش الإنسانية قتل العراقيين بوحشية منقطعة النظير لنهب أرواحهم وأموالهم وممتلكاتهم، إضافة الى النهب الساري لأموال الدولة ونفطها من قبل ميليشيات وأحزاب وقوى سياسية وغير سياسية معروفة ومجهولة حاكمة وغير حاكمة على الساحة العراقية.


نهب للأرواح والأموال استقر به الحال منذ تحرر العراق من براثن الاستبداد ودخوله في عهد العراق المفتوح على جميع الجهات الإستخباراتية والأمنية والعسكرية لأعداء العراقيين وللدول المجاورة التي لا تريد أي خير للعراق، بسبب الأخطاء الإستراتيجية القاتلة لقوات الاحتلال والقوى السياسية العراقية.
في ظل هذا المشهد الأليم للأرواح العراقية التي تذهب هدرا دون حق، فان أقل ما يمكننا ان نصف به هذا المنظر الحزين، هو أن مشهد الجثث المجهولة تحول الى مستمسك هوية حاضرة للعراق الجديد الذي تحقق بعد سقوط الصنم، عراق جديد لم يكن فيه للدم والعنف والقتل والإجرام والإرهاب الا علامات فارقة رئيسية في حياة العراقيين التي تحولت الى حياة جحيم، لا رحمة فيها ولا شفقة على الأرواح الطاهرة العراقية التي تذهب دون حق بدوافع طائفية وإرهابية وفق برامج مدسوسة مختلقة آتية من خارج الحدود لأسباب سياسية دولية وإقليمية لا علاقة للعراقيين بها ولكنهم انجروا إليها ظلما وجورا.


ولم تقف أبعاد مظاهر هذا العنف الرهيب عند هذا الحد، بل سايرها هموم للعراقيين ومعاناة تنحصر مساحتها بتوزيع الامتيازات وترك الأغلبية الفقيرة من الشعب على حالها، مع ظهور حالة متسلطة من مظاهر التمايز الطبقي بين شرائح فقيرة كثيرة النفوس وشريحة قليلة العدد من أهل الحكم والسلطة ومراكز خفية تعيش في بروج عالية تحتضن أصحابها أموال منهوبة من العراقيين، البعض منهم استحصل عليها بين ليلة وضحاها مستغلين الحالة الأمنية والسلطة على حساب الشعب، وذلك من خلال إرساء حالة رهيبة من استباحة المال العام العراقي من أجل المنافع الشخصية والحزبية والعائلية، مع وجود حالة من الغلاء الفاحش، نتيجة سيطرة واحتكار أهل الأموال والتجارة والشركات من أهل الحكم والمراكز الخفية على التجارة والاقتصاد، عن طريق تقاسم أهل السلطة لنفوذهم مع التجار المتاجرين بقوت الشعب العراقي.


هذا الواقع المليء بالمعاناة والمأساة في حياة العراقيين، في ظل رئاسة وحكومة وبرلمان منتخب، ومع مرور أكثر من أربع سنوات على دخول العراق في العهد الجديد، لا يسعنا الا أن نعبر عن ألامنا وأحزاننا البالغة لمشاهد الألم المتكررة يوميا في ظل حالة حياتية متسمة بالصعوبة الشديدة والقساوة والضراوة، وفي ظل أزمات معيشية بقيت على حالها مع اشتداد لشدتها ومعاناتها في حياة المواطن العراقي، مما نتجت عنها حالة من الفقدان التام للثقة بين العراقيين والسلطة، نتيجة استمرار العنف والإرهاب وعدم السيطرة عليهما، وانتشار مظاهر الفساد والثراء الفاحش المبني على استغلال الحكم ودوام الحالة المضطربة وغياب السلطة في كثير من المناطق، وفقدان مظاهر الأنشطة الاقتصادية لتوفير الفرص أمام الفقراء العراقيين، وفقدان الخدمات والحاجات الأساسية للحياة، وغياب توفير مقومات تكوين الحياة الأسرية، وفقدان الوسائل الرادعة التي تحد من الحصول على الثروة بأساليب غير شرعية واستغلال السلطة، ووجود أزمات حياتية خانقة كالكهرباء والوقود والبطالة وفرص العمل.. كل هذه الأزمات الجارية في الحياة اليومية للعراقيين، لم تقف عند حدها ولم تتوقف عند حدود هذه الحالات، وتأتي مشهد الجثث المجهولة المرتكبة من قبل قوى ومراكز محلية ودولية خفية لتضيف جرحا أكثر عمقا وأكثر غرزا في نفوس العراقيين، وكأنها تقول لنا يا أهل العراق أرواحكم عندنا رخيصة برخص الأدوات التي تذبحون بها، ولهذا نذبحكم ونرميكم رمية لا إنسانية فيها ولا شفقة، في ظل مشهد يومي لجثث لا تعرف أصحابها ولا فاعليها المجرمين من الوحوش التي كست نفسها بلباس البشرية.


هذا المشهد والواقع الحزين للجثث المجهولة الهوية، نأمل من السلطة العراقية الحاكمة في الرئاسة والحكومة ان تكون محل اهتمامها الجدي خاصة وأنها حالة يومية جارية بعيدا عن أحاسيس الزمن الجاري، وبعيدا عن مشاعر الرأي العام العربي والإقليمي والعالمي القابع في دهاليز السبات والنوم العميق، والقضاء عليه ليس بحلم صعب المنال للارتقاء بالمشهد العراقي نحو الوجدان الإنساني، لإرساء احترام لائق للإنسان العراقي، وضمان نظام حياتي لائق مع مستلزمات البنية الاجتماعية والاقتصادية للعراقيين، لتأمين حاضر آمن وحياة حرة كريمة لأبناء بلاد الرافدين وضمان مستقبل زاهر لأجياله القادمة.

د.جرجيس كوليزادة
[email protected]