بل بالعكس! قد تلوثها وتهوي بالهدف السامي إلى الحضيض مما يُكسِبُه تقييماً معاكساً. وفي حين يختلف تقييم نفس الوسيلة حسب الزمان والمكان والفاعل، هناك شبه اتفاق بين معظم الحضارات أن الكذب تصرف مرفوض للوصول إلى غايات نبيلة وخصوصاً عند عملية موازنة المحاسن والمساوئ، مع ملاحظة أن الكثيرين قد يقدمون التبريرات أثناء عملية جرد الحساب فيغضون البصر عن كذبات محددة. وإلا ما هو الفرق بين خداع اللص لاسترجاع المال وكذب الشاهد في المحكمة؟

ولماذا يستدعي نفس السلوك في المرة الأولى التبرير وفي المرة الثانية العقاب؟ قد تدخل الحالة الأولى في خانة الكذب المرفوض نظرياً والمقبول عملياً، أما الحالة الثانية فتشمل الكذب المدان فكراً وواقعاً. إن الفصام بين ما يقول الفرد وما يفعل هو مشكلة اجتماعية بالدرجة الأولى لا نفسية، فالفرد الذي يعيش تقديس قيماً معينة من قِبَل معظم المحيطين به، لا مناص أمامه من التظاهر بالالتزام بها لفظاً والابتعاد عنها فعلاً في حال عدم إيمانه بها، خوفاً من رد فعل المحيطين به. ربما خير مثال على الغاية التي لا تبرر الوسيلة هو العمليات الانتحارية التي يقوم بها أفراد يائسون في مواجهة عدو جبار، عدد المدنيين الذين يقتلوا في هذه العمليات يتجاوز بأضعاف عدد المقصود قتلهم من الطرف المعادٍ، وكنتيجة لذلك توجهت أنظار المناصرين القلائل لعملية القتل المجاني إلى تصديق هاجس العرب الأول أي المؤامرة، فالقتلة يقومون بذلك بحسب اتفاق مع قوات العدو، وبغض النظر عن صدق هذا الأتفاق المزعوم أو عدمه، فالذين يموتون كل يوم أبرياء لا ذنب لهم، ولان الكل يكذب ضاعت الحقيقة بين أقدام المؤمنين، و لا زال هناك من يصر أن هذه المقاومة شريفة، بغض النظر عن الضحايا، فما يهم في عملية الحساب هو عدد خسائر العدو لا خسائرنا، فهم يعشقوا الحياة ونحن نعشق الشهادة. وسينسى الجميع أولئك الذين ماتوا والذين تشوهوا و سيصدقون فقط كذبة الجهاد ودحر الامريكان والصهاينة أياً كان الثمن، مع ملاحظة أن هذه الكذبة هي من نوع خداع الذات التي يمكن تبريرها فهم يكذبون على أنفسهم وهم المتضررون أولاً وآخراً من حجب الشمس بالغربال.


أما الكذب الذي يستعين به الانسان للوصول إلى غايته عن طريق خداع الآخر الصادق قولاً على الأقل، فهل سيطرح من جديد على طاولة البحث لتبريره؟


كذبة انتشرت منذ فترة قصيرة، شارك بها كثير من العرب، وصدقها القسم الباقي وبعد فترة سينسى الجميع أصل الكذبة ويصرون على أنها الحقيقة، ورغم أن النتيجة لم تُحسَم بعد، لكن بعد فترة سيتخذ العرب الكذبة التي كذبوها وصدقوها دليلاً على حقهم ومع التجاهل الرسمي لكذبة اخترعوها ستثور ثائرة المسلمين على التمييز ضدهم والديمقراطية المزيفة التي يخدعهم بها الغرب، هذه الديمقراطية التي يتجاهلونها هم أنفسهم في بلدانهم الأصلية ولن يفكروا بمسألة تطبيقها حتى بشكل شخصي على الأقليات الدينية والعرقية أو ذوي الرأي الآخر في بلادهم.


أثيرت في الشهر الماضي في مدينة كولن الالمانية عملية بناء مسجد ضخم يتسع لأاكثر من لألفي شخص ويبلغ طول كل من منارتيه الخمسين متراً، وبين معارض من الألمان المسيحيين واللادينيين وبين ومناصر من المسلمين أتراكاً وعرباً، كون المسجد يعود في الاصل للجالية التركية، انشغلت وسائل الاعلام بالنقاش الحاد والمظاهرات الموالية والمعارضة. وكعادتها حاولت إحدى المحطات التلفزيونية عبر موقعها على الانترنت أن تقيس الرأي العام ( الذي تعترف كل وسيلة إعلامية تتمتع بالحد الأدنى من المصداقية، بإنه يعبر فقط عن آراء المشاركين به) تجاه هذه المسألة.

و هب العرب في كل مكان للدفاع عن حق بناء المسجد. قد يبدو منطقياً رغبة المسلمين الموجودين في أي مدينة في ألمانيا بمناصرة أخوتهم المسلمين للحصول على حقهم في بناء مكان عبادة لهم، ومع التغاضي عن سلوك الكثير من الأجانب في التهرب من الضرائب والعمل بالاسود للحصول على راتب البطالة، أو اللجوء إلى ما يسمى الزواج الاسلامي وهي تعني أن الزوجان يتزوجان تحت رعاية شيخ، لكن دون تسجيل الزواج في دائرة النفوس لكي لا ينقص مبلغ الإعانة سنتاً!

هذا السلوك الذي يناقض الكثير مما ينص عليه الاسلام. رغم ذلك يمكن تبرير هرولة المسلمين لدعم أخوتهم طالما أن التصويت مجاني عبر صفحة الانترنت، وهو بعكس التصويت عبر الهاتف قد يكلف صاحبه قليلاً من المال، لكن ما لا يمكن تبريره هو دعوة المسلمين في البلاد العربية للتصويت على مشروع بناء الجامع، هؤلاء الذين لا يعرفوا من اللغة الالمانية حرفاً مدعوون للتصويت لمساعدة أشقاءهم المسلمين في ألمانيا. وانتشر رابط التصويت في الكثير من المنتديات، ليشير بدقة إلى موقع الجواب المطلوب، وساهم فيه من يعنيه وجود جامع في ألمانيا قد يصلي به ذات مرة، و من لا يعنيه لإن ألمانيا بالاصل ليست بلده، ودعا كل فرد للآخر بأن يضع الله فعله في ميزان حسناته، متجاهلين أنهم يكذبون ويزورون لان المقصودين بالاستبيان هم فقط الأشخاص الموجودون في ألمانيا. وارتفع عدد الموافقين إلى أكثر من النصف بعد أن كانت نسبتهم لا تتجاوز الربع. أحد المجاهدين الفكريين عرض في صفحته الخاصة سؤال الاستبيان مع ترجمته ووضع إشارة على الرأي الذي يناصر حق المسلمين في بناء الجامع، وعرض خدماته لمساعدة أي شخص لا يتمكن من التصويت بأن أبدى استعداده للارشاد هاتفياًً لكيفية الاجابة عن ذلك السؤال الوحيد المتضمن ثلاث خيارات.


توقف الاستفتاء دون أن يدري أحد لماذا، هل انكشفت عملية التزوير؟ أم أن مدة الاستطلاع انتهت؟ لو التزم المسلمون بالتعاليم الأخلاقية التي يزخر بها كتابهم، وتعاملوا مع الآخر بصدق سواء كان موحداً أو ملحداً، لو التزموا بقوانين الدولة التي أجارتهم ألم يكن ذاك خير دعاية للمسلمين ودعوة للحياديين بالدفاع عن حق المسلمين في بناء مسجدهم، مع ملاحظة أن هذه الدولة ليست سماوية ولها أجندتها الخاصة لقبول الأجانب كلاجئين، لكن المسلمون يتجاهلون الهدف من مساعدتهم عندما يسعون للجوء إلى أرضها والتمتع بخيراتها ومساعداتها التي لا يستحقها معظمهم، فإذا ما حل موعد التزامهم بواجباتهم تجاه الدولة التي دفعوا كل شيء في سبيلها، فكذبوا وزوروا للوصول الى أرضها، سيبدئون بتحليل دوافع الدولة في استقبالهم ويتهمونها بالامبريالية لانها تسرق خيرات الشعوب فتصنعها وتبيعها لهم من جديد، وهذا كله لا يجانب الحقيقة كثيراً. لكن السؤال هو عن تلك الرغبة المستميتة في البقاء عند صدور أمر الترحيل ـ لأي سبب يتعلق بمخالفة القانون فيهاـ هذه المخالفات التي تتعلق غالباً بكشف الادعاء الكاذب أو التزوير للحصول على ميزة ما، ستكون وقتها خير وسيلة للدفاع عند كشف تلك الكذبة التذرع بالاضطهاد السياسي أو الديني في البلد الأصلي، ومن بين مئات الآلاف من المهاجرين أو اللاجئين السياسيين المدعين الذين يتوزعون في كل أوروبا، كم يبلغ عدد اللاجئين بالفعل.


طبعاً لا توجد كذبة مبررة وكذبة مدانة، كله كذب أياً كان هدفه، لكن هل تستوي كذبة فردية مع الكذبة التي تنشر في الفضاء الالكتروني دون أي خجل ويدعو صاحبها المؤمنين إلى اعتماد الكذب لتمرير بناء مسجد، مع ملاحظة أن عملية البناء ستتم في الغالب بسبب الحرية الدينية لا بسبب سيوف الكذب التي أشهرها المسلمون في كل مكان، وهم يحاربون طواحين الهواء تماماً مثل سلفهم دونكيشوت في تلك الرواية المشهورة، فنقطة الخلاف بالاصل كانت حول حجم المسجد المنوي بناءه لا عملية البناء ذاتها.

ايلين فضول