يبدو أن حكومة إقليم كردستان ماضية في إجراءاتها لما تسميه بترشيد النفقات دون أن تعبأ بما يترتب عن ذلك من تعاظم معاناة المواطنين الذين ستطاولهم تلك الإجراءات من دون علية القوم المتمتعين وحدهم بمباهج الحياة واللعب بأقوات الشعب الجائع..فقد ظهرت ملامح تلك الإجراءات من خلال وقف رواتب تكريم الفنانين والكتاب والصحفيين والإدباء، وقطع الرواتب المزدوجة بما فيها الرواتب التقاعدية والمخصصات الوظيفية عن شريحة كبيرة من الموظفين إعتبارا من الشهر الجاري..


ويبدو لي أن هذه الحكومة غير العابئة بمعاناة الناس قد أصابها الغرور الدكتاتوري كما أصاب رأس النظام السابق الذي أذله الله وسود وجهه في الدنيا والآخرة بإخراجه من حفرة العنكبوت بلحية كثة وشعر منتوف كأنه خارج من أبواب الجهنم السبعة، وإلا فلا أجد تفسيرا منطقيا لذلك الصمت الذي يشبه صمت القبور من الحكومة تجاه الأزمات المعيشية التي تطحن سكان الإقليم، لتأتي هي وتزيدها بكارثة قطع الرواتب والإعانات عن الطبقات المسحوقة!!..


فإذا كانت إجراءات الترشيق والترشيد التي تنوي الحكومة الإقليمية تطبيقها للتخفيف عن الميزانية بهدف تنظيم الموارد، وإعادة توزيعها بشكل عادل على طبقات الشعب( كما نشك بذلك)، فأهلا وسهلا بتلك الإجراءات،أما إذا كانت تهدف الى تجويع الشعب لإطعام بعض الكروش المنتفخة ( كما نحن متأكدون من ذلك)،فهذه كارثة إنسانية محققة، لأن أصحاب الكروش المنتفخة هم بحاجة أصلا الى عمليات تصغير المعدة الشرهة لكل ملذات الحياة، وليس الشعب المغلوب على أمره الذي بالكاد يتدبر أقوات أطفاله الجوعى في ظل الأزمات الطاحنة.


ومن العدل تماما أن تبدأ حكومة الإقليم بتطبيق تلك الإجراءات التقشفية على نفسها أولا، قبل أن تتجرأ بمصادرة أقٌوات الشعب،فالحكومة التي تتشكل من 42 وزارة أكثرها وزارات هامشية أو غير فاعلة ومؤثرة هي الأولى بالترشيق كخطوة في البداية، لأنها فعلا تعاني من السمنة المفرطة، وهي بحاجة الى الترشيق والترشيد، خصوصا وأن أكثر تلك الوزارات لا شغل لها ولا مشغلة اللهم إلا إشباع نهم بعض أعضاء قيادات الحزبين الحاكمين ولهثهم وراء المناصب والإمتيازات؟!!.
فلا أدري ما الحكمة من فصل وزارة الموارد المائية ( الري) عن وزارة الزراعة وهما كانتا وزارة واحدة في العديد من الحكومات العراقية السابقة؟!.


وما الحكمة من فصل وزارة النقل عن المواصلات (الإتصالات) وقد كانتا معا طوال عقود من الزمن،وهاتين الوزارتين لم تتقدما ولو بمشروع واحد طيلة سنوات تشكلهما في الإقليم؟!..
ولا أعرف سبب إستحداث وزارة للكهرباء وقد كانت مجرد مديرية عامة في وزارة الصناعة، وهي وزارة لا ضرورة لها البتة لأن الإقليم أصلا يفتقر الى المحطات الكهربائية ومصادر الطاقة المتعددة مثل بقية دول العالم حتى تشرف عليها الوزارة،كل ما هنالك محطتين في دربنديخان ودوكان وهما عاجزتان عن توفير ولو الحد الأدنى من الطاقة للإقليم، والبقية تجهز من محطات المركز.


وما ضرورة وجود سبع وزراء للإقليم وكلهم مجتمعون في بناية واحدة لا شغل لهم ولا عمل سوى إنتظار تسلم رواتبهم الشهرية،أو الإنشغال بمراسيم الترحيب بزوارهم الشخصيين؟!..
ومما يزيد الطين بلة، هو أن أي وزير يقال أو يتقاعد سيستمر في تسلم رواتبه كوزير الى يوم القيامة، وهي رواتب ضخمة جدا تفوق رواتب عدد كبير من الموظفين الذين تهدد الحكومة الإقليمية بقطعها عنهم؟!.
وكذا الحال بالنسبة لإعضاء البرلمان..فلو أخذنا بالحسبان عدد أعضاء البرلمان في الدورتين السابقتين ووزراء الحكومتين الإقليميتين ووكلائهم سنجد كم من الأموال الطائلة تصرف لهؤلاء كرواتب تقاعدية..
لا أعلم إذا كان هذا ألأمر متبعا في دول أخرى،أم هي تجربة خاصة بالإقليم الكردستاني، ولكني أرى أن أي عضو برلماني يخسر مقعده بنتيجة إنتخابات لاحقة، فإنه لا يستحق أي راتب أو رعاية من الدولة لأنه سيفقد أولا ثقة الشعب به، ثم أن العمل البرلماني ليس وظيفة حكومية حتى يمنح راتبا تقاعديا بعد سنوات طويلة من الخدمة الفعلية كتكريم له، وأنما عضوية البرلمان هي تكليف بتولي مسؤولية مؤقتة لدورة أو دورتين تنتهي بإنتهاء عضوية البرلماني.


وعلينا أن لا ننسى أن أعضاء البرلمان أو الوزراء يحصلون على إمتيازات وأموال وهم في الخدمة تكفيهم لما بقي لهم من العمر، منها تمليكهم العقارات وشراء السيارات الفارهة وتعيين العشرات من أقاربهم في وظائف حكومية وإعطائهم تسهيلات في إنشاء الشركات الخاصة أو تفضيلهم في عقود المشاريع الإعمارية والإستثمارية،أو منحهم تسهيلات للعمل التجاري، فهذه الأمور غير خافية على أكثرية البسطاء من الشعب..
قبل فترة أشرت في مقال لي الى فضيحة قيام أحد الوزراء بتعيين شقيقه بصفة مدير عام في وزارته قبل أيام من توحيد الحكومتين الإقليميتين، وبعد يوم واحد من التعيين أحال شقيقه هذا على التقاعد ليتمكن من الحصول على الراتب التقاعدي بدرجة مدير عام، وهناك مئات الحالات الأخرى المماثلة حيث عين الكثيرون من أعوان الحزبين الحاكمين في وظائف بالحكومتين السابقتين كمدراء عامين أو وكلاء وزارات تمت إحالتهم على التقاعد ليتنعموا برواتبهم التقاعدية الى أبد الآبدين، بينهم شقيق ذلك الوزير الذي يستلم راتبه عن خدمة يوم واحد في الدولة؟؟!!..


ونحن نتحدث عن فيض الوزارات في الحكومة الإقليمية، لابد أن نشير بالمقابل الى بعض الوزارات المهمة التي يهمش دورها متعمدا من قبل الحكومة، وهي بحاجة لا أن تكون وزارات عادية في الحكومة بل وزارات سيادية تحظى بنصيب أكبر من إهتمام الحكومة، مثل وزارة الإقليم لشؤون المجتمع المدني، بالإضافة الى تفعيل دور وزارات أخرى مثل حقوق الإنسان والبيئة التي تهملهما الحكومة عن سابق تصميم وترصد؟!.
فالحكومة الإقليمية التي تدعي أنها تسعى الى إرساء أسس المجتمع المدني في كردستان، يجب أن تفعل دور هذه الوزارة وتكرس لها كل الإمكانيات للقيام بدورها، لأن من أهم مشكلات كردستان هو تخلف مجتمعه وتأطره ضمن حياة سياسية منغلقة لأكثر من ثمانين سنة، وإفتقار منظمات المجتمع المدني لأي دور أساسي داخل المجتمع بسبب تخلف الأنظمة السياسية المتعاقبة على العراق عموما وعلى كردستان خصوصا التي ما زالت تعاني من مخلفات الروابط العشائرية وحتى الإقطاعية والقيم والعادات الإجتماعية البالية.
وعندما تدعي الحكومة الإقليمية أنها تنتهج السبل الديمقراطية في الحياة السياسية،فعليها أن تفعل دور وزارة حقوق الإنسان،لأن الإنسان هو أولا وأخيرا هو المادة الأساسية للديمقراطية وهو الغاية من تحقيق المجتمعات الديقراطية.


وعندما تدعي حكومة الإقليم أنها حكومة منتخبة تمثل الشعب، فعليها أن تفعل دور وزارة اليبئة، لأن المخاطر البيئية هي من أهم وأكبر مشاكل هذا العصر بالنسبة للشعوب، خصوصا في منطقتنا التي تفتقر شعوبها الى المباديء الأساسية لحماية البيئة ودرء المخاطر عنها..


رغم إدعاءات حكومة الإقليم بأنها تسعى من وراء ترشيد النفقات الى الإستخدام الأمثل لموارد الإقليم في مشاريع إعادة الإعمار وتخفيف الميزانية التي أصبحت مفرداتها لغزا عسيرا أو طلسما لا يستطيع أحد أن يفك رموزه إلا وزير مالية الإقليم،لأن الميزانية التي تأتي الى الإقليم لا أحد يعرف كيف تصرف وأين تذهب سوى وزير المالية بشخصه وجلالة قدره، ففي ظل إنعدام أي رقابة حتى من البرلمان الكردستاني الذي هو أعلى سلطة في الإقليم لا أحد يتجرأ بالسؤال عن مصير تلك الميزانية وأوجه صرفها.


وكيف يمكن للبرلمان أن يحاسب الحكومة وهما معا يشكلات تركيبة سياسية مشوهة باسم التحالف الإستراتيجي غيبت كل دور معارض داخل البرلمان. حتى الإحزاب الكردستانية الصغيرة في البرلمان التي رفعت صوتها أثناء مناقشة ميزانية الحكومة لعام 2007 تم إسكاتها سواء بالتهديد بقطع الإرزاق، أو بالترغيب بمنحها جزءا ولو يسيرا من الكعكة..
وآه من الكعكة التي تستذل بعض النفوس الضعيفة وأصحاب الضمائر الميتة؟؟!

شيرزاد شيخاني

[email protected]