في الذكرى السنوية السابعة عشر لجريمة غزو و إحتلال و تدمير دولة الكويت في ذلك الخميس الأسود في الثاني من آب / أغسطس 1990 لا بد للتاريخ أن يقول كلمته في عصر و مرحلة سادت فيها العبثية و تسيدت الفتنة و أرتفعت الشعارات الجاهلية و حملات الكراهية بين الشعوب العربية و التي لم تزل بقاياها متفاعلة حتى اليوم في العالم العربي التعيس، إنها ذكرى سوداء لجريمة قومية مروعة لم تكن أسبابها و مسبباتها مجرد حلم ليلي للطاغية البائد عاد و جسده صباحا ؟ بل كان الأمر مخطط و مبرمج له ضمن الحاضنة الفكرية والإيديولوجية لنظام البعث العدواني البائد الذي كانت للإنقلابية فيه دور فاعل و صميمي في صناعة الأحداث و المؤامرات و الفتن في العالم العربي طيلة العقود الأربع المنصرمة من الزمن العربي المستباح و الذي أدى في النهاية لحالة كبرى من التقسيم الوطني و القومي و التي يعانيها العالم العربي حاليا وهو يعيش عصر التغيير الكوني الكبير، و جريمة غزو و إحتلال و تدمير دولة الكويت لم تكن من طراز الجرائم العادية ؟ كما أنها لم تكن مجرد خلاف حدودي محدود بين بلدين يمكن أن يتطور و تسخن جبهته ثم تنطفأ الجذوة فيما بعد لحلول عقلانية و تفاوضية، و لكنها كانت جريمة قتل مع سبق الإصرار و الترصد ؟ ليس قتلا للشعوب فقط بل قتلا للفكر القومي المتعصب بمبناه العنصري البغيض و المشبوه الذي عبر عنه حزب البعث العراقي البائد بإفكاره العنصرية و روح قيادته الفاشية و العشائرية المتخلفة، و بقياداته الفوضوية الجاهلة التي رسخت لعراق مدمر و نازف يعاني اليوم من كل عقد و خرافات التاريخ و كل نتائج الجهل و التردي و الإنحطاط وهي الوضعية التي ساق البعثيون العراق و العالم العربي نحوها بكل إمتياز و بإنجاز و نجاح عجيب لا نظير له، و قضية الحدود العراقية / الكويتية كانت و مازالت للأسف بمثابة برميل بارود متفجر لعبت على أخطاره و أوضاعه الأنظمة العراقية المتعاقبة التي جعلت من تلك القضية كعب أخيل أو قميص عثمان جديد، فالأنظمة الجمهورية بدأت بالتعامل مع ذلك الملف من منطق عدواني غريب فحواه الرئيس العودة للتاريخ و إستباط الحلول ؟ رغم أن الإستعانة بالتاريخ لا تخدم أبدا السياسي العراقي و لا تثبت حقوقا واقعية من شأنها تعزيز الأمن و السلام و التآخي بين الشعوب العربية، كما أن إستخدام التاريخ و ملفاته كأساس للحل هو أمر من شأنه أن يخلط الأوراق و يدمر كل الكيانات السياسية القائمة و من بينها الكيان العراقي ذاته الذي كان حتى مطلع القرن العشرين جزءا من المنظومة العثمانية و حيث فقد إستقلاله التام منذ هيمنة العثمانيين على بغداد عام 1534 فضلا عن أن العراق لم يكن جزءا واحدا متكاملا بل كان يخضع لنظام الولايات هذا غير الصراع التاريخي المسلح بين الدولة العثمانية و العوائل الحاكمة في بلاد فارس من صفويين و زنديين و أفشاريين و قاجار و الحروب التي جعلت من العراق مسرحا لها فبالبصرة و بغداد ذاتها كانت في حالة دائمة من الإحتلال الإيراني و الإحتلال التركي العثماني و لم ينته هذا الوضع إلا بالإحتلال البريطاني عام 1914 و الذي وصل لبغداد عام 1917 ثم لشمال العراق في نهاية الحرب الكونية الأولى و حيث دخلت القوات البريطانية للموصل بعد الهدنة الأمر الذي إستغلته الدولة التركية الحديثة للمطالبة بولاية الموصل و إعتبارها من ضمن الكيان التركي و حيث لعبت المصالح البريطانية دورا كبيرا في الحفاظ على عراقية الموصل و عروبتها عبر الإستفتاء الأممي الشهير عام 1925، و لم تكن الكويت موضعا للنقاش في تلك الفترة لأنها كانت بحكم الواقع و منذ القرن الثامن عشر خارجة عن نطاق السيطرة العثمانية المباشرة وكانت تمارس نشاطا سياسيا و تجاريا فاعلا تصاعدت حدته مع نهايات القرن التاسع عشر و ظهور الشيخ مبارك الصباح الذي لعب دورا تاريخيا مهما ليس في الكويت فقط و صيرورتها بل في التشكيلات و التحالفات الإقليمية التي نشأت وقتها بين زعامات تلك الفترة التي حاولت أن تقيم فيما بينها كيانا سياسيا و إقتصاديا فاعلا و مهما لولا التدخل البريطاني الذي أجهض قيام دولة كبرى في شمال الخليج العربي كانت تضم الكويت و المحمرة وولاية البصرة وهي منطقة تمثل حزاما نفطيا هائلا كان قيامها سيغير الصورة الكونية فالعلاقات القوية بين الشيخ مبارك في الكويت و الشيخ خزعل الكعبي في المحمرة و السيد طالب النقيب في البصرة كانت تمثل واقعا سياسيا كان من الممكن ترجمته لواقع عمل ميداني قبل أن تتكفل تطورات الحرب العالمية الأولى بإجهاض ذلك المشروع الحلم الذي لو تحقق كان من الممكن أن يجنب المنطقة العديد من الهزات و الكوارث، و بعيدا عن الإغراق في التاريخ و رواياته و أحداثه التي لا تنتهي، فإن العودة لسياسات العبث البعثية في الثمانينيات كانت من أكبر العوامل في خلق و تكوين أزمة دولية ساهمت أبشع مساهمة في تعويق و تكسيح العالم العربي عبر بوابة الحرب العراقية / الإيرانية التي كرست حوار الدم في المنطقة و رفعت من رصيد الفاشية البعثية التي نجحت في عسكرة المجتمع العراقي و فرض الرؤى العدوانية و خلق ما يسمى بسياسة المجال الحيوي وحيث تصور النظام البائد نفسه كقوة عظمى و لم يكن ذلك صحيحا بالمرة فمؤسسة النظام العسكرية كانت على وشك الإنهيار التام في معارك ربيع 1982 التي إنتهت بغودة المحمرة للنظام الإيراني و هزيمة الجيش العراقي المذلة في الأهواز و بما هدد العمق العراقي ذاته لولا الدعم الخليجي و الدولي القوي الذي لم يكن موجها لصالح صدام و نظامه بل لصالح الكيان العراقي ذاته فإيران و نظامها لم يكن يخفون حقيقة أن شعارهم هو تحرير القدس عن طريق كربلاء؟؟؟ و هو إدعاء مضحك و يثير التندر فأقرب طريق للقدس يمر من هضبة الجولان السورية و ليس من صحراء كربلاء ؟ و الطريف المؤلم أن نظرية العمى الجغرافية تلك قد إقتبسها النظام العراقي ذاته في جريمة غزو الكويت حينما أكد من أن تحرير القدس يمر من الكويت بعد أن فشل الخيار على تحريرها من خلال عبادان؟؟؟ لقد كانت مرحلة عبث حقيقية ساهمت في صناعة و تسويق نظام بعثي عدواني متخلف كان موهوم بالعظمة و الغرور تصور خلالها من أن هيمنته على الكويت ستكون مجرد نزهة عسكرية سريعة ستنتهي بتدمير الدولة و الكيان الذي كان مؤسسا على أسس دستورية راقية لم يستطع كل حكام الدولة العراقية الحديثة من الوصول لمستواه، و كان ذلك الغزو إعلانا واضحا بفشل و إفلاس العقيدة الوحدوية المزيفة لحزب البعث و حيث وقفت قيادته القومية مع ذلك الغزو الأحمق و الإجرامي مصورة إياه على كونه فتح عربي جليل سيساهم في وحدة الأمة العربية؟؟ بينما العكس هو الصحيح تماما، فقد كان ذلك الغزو المقدمة الحقيقية لتدمير العالم العربي و هو غزو سبقته خطوات تكتيكية واضحة لم تستطع إخفاء معالم الجريمة و حدودها ففي عام 1989 سعى النظام و في خطوات ثعلبية ماكرة لتوريط العالم العربي في المقدمات التي كان يبنيها و أعلن عن قيام ما كان يسمى بمجلس التعاون العربي الذي ضم العراق و مصر و الأردن و اليمن وفي خطوة تحالفية كانت مفضوحة و سرعان ما أكتشفها الرئيس المصري حسني مبارك الذي أطلق على ذلك المجلس صفة مجلس التآمر العربي الذي لم يعمر طويلا بل بيع أثاثه في المزاد العلني ؟؟، ثم كان التصعيد عن طريق إتهام دولة الإمارات العربية و الكويت بشن الحرب الإقتصادية على العراق رغم أن الكويت ما غيرها قد قدمت المليارات لدعم الإقتصاد العراقي و أطلق جملته الشهيرة قطع الإعناق و لا قطع الأرزاق؟؟ و هي عبارة عشائرية سخيفة و فاقدة لمصداقيتها الحقيقية و كان الهدف هو الكويت ثم أعلن عن مطالباته المادية بعشرة مليارات من الدولارات و كانت مطالب إبتزازية واضحة الأهداف و المعاني فالنظام البعثي بعد أن أفلست كل مشاريعه وضع نصب عينيه الكويت ليأكلها كاملة تحت هدير الشعارات من أمثال نفط العرب للعرب و عودة الفرع للأصل و غيرها من شعارات تلك المرحلة الزاعقة و السقيمة ثم حدثت الجريمة فجر ذلك الخميس الذي لم نزل نتذكر كل تفاصيله المرعبة و حيث حلت الهزيمة بالأمة العربية و أستبيح الدم العربي و فرضت الجاهلية و العشائرية البعثية رؤاها المريضة و إنقسم القوم بين مؤيد لنظام صدام و كانت الأغلبية العربية للأسف و بين رافض لها، و تم ما تم ثم إنتهى ذلك الغزو الأحمق بنهايته الطبيعية وهي الهزيمة الكبرى في أم المعارك و التي تركت النظام معلقا بالحبال الواهية لأكثر من عقد كامل قبل أن تجهز الحواسم عليه و تخلص العالم من شروره و عن طريق الكويت ذاتها التي ردت الرد التاريخي و كان دورها حاسما و ستراتيجيا في تحرير العراق من نظام البعث المريض، لقد كان الغزو جريمة تاريخية كبرى لم تزل آثارها السلبية شاخصة حتى اليوم في العالم العربي المسكون بأوهام التاريخ و أمراضه الوراثية، لقد تلقى المجرمون عقابهم التاريخي الحاسم، و يبقى الأمل في فجر جديد لشعوب المنطقة يقوم على أساس التعاون و البناء و السلام.... و تبقى الجريمة شاهدا من شواهد التاريخ فالقصة طويلة و لم تكتب فصولها النهائية بعد ؟.

[email protected]