تردد فى السنوات الأخيرة كلام كثير عن ممارسة الكنيسة القبطية للسياسة،ثم تحول الكلام إلى هجوم كثيف بعد واقعة السيدة وفاء قسطنطين فى نوفمبر 2004، ثم توجه الهجوم إلى قداسة البابا وبشكل مكثف، ومستمر الهجوم حتى كتابة هذه السطور.
من متابعة الهجوم على الكنيسة وعلى قداسة البابا نلاحظ ان مصدره إما التيار الإسلامى وفى مقدمة المهاجمين شخصيات مثل محمد عمارة ومحمد سليم العوا وطارق البشرى، إما مصدره الجهات الأمنية ويأخذ شكل الحملات المكثفة فى الإعلام الحكومى الخاضع لأجهزة الامن. واتذكر فى بداية التسعينات من القرن الماضى فتحت مجلة روز اليوسف هجوما مكثفا على قداسة البابا، وكان ظاهرا إنها حملة أمنية بناء على تعليمات امنية مباشرة، وقد تحدثت مع رئيس التحرير وقتها لاشارك برأيى فى هذا الموضوع وظن أنى سوف اكتب مهاجما قداسة البابا وذهبت لمقابلته وعندما قرأ المقالة ووجدها تدافع عن قداسة البابا اعتذر وقال لا استطيع نشر هذه المقالة.وعرفت بعد ذلك أن الحملة توقفت بعد إتصال من الكتدرائية برئاسة الجمهورية. وهذه اللعبة الأمنية تكررت أكثر من مرة وفى أكثر من اتجاه وتبدأ باوامر للصحافة وتنتهى باوامر أيضا.أما الإسلام السياسى وخاصة الأسماء التى ذكرتها فهى فى حالة عدائية مستمرة مع الكنيسة ومع قداسة البابا ومع كل ما هو قبطى منذ سنيين، ولكن لا مانع من إستغلالهم للحملات الأمنية الهجومية ليدلوا بدلوهم أيضا فى الموضوع ومن خلال هذه المنابر الحكومية.
ولكن السؤال هل يمارس رجال الدين الأقباط السياسة؟
باستثناء أفراد قلائل الاجابة بالنفى. فهناك فرق بين ممارسة العمل السياسى وممارسة الحقوق السياسية وحقوق المواطنة. هناك أيضا فرقا بين أن تمارس الكنيسة دورا وطنيا وأن تمارس دورا سياسيا، فالكنيسة مؤسسة وطنية وليست سياسية أو حكومية، والبابا شخصية عامة وليس موظفا حكوميا مثل شيخ الأزهر والمفتى ووزير الأوقاف.
كما إنه من حق الكنيسة بل وواجب عليها أن تمارس دورا حقوقيا فيما يتعلق بالتعبير عن آلام شعبها والتنديد بالإضطهاد والتمييز الواقع عليهم ولا يعتبر ذلك دورا سياسيا.
كما أن هناك فرقا بين أن تمارس الكنيسة القبطية دورها المنوط بها قانونيا وأن تمارس السياسة.
وللأسف يخلط كثير من الكتاب والصحفيون سواء عن عمد أو عن جهل لهذه الادوار ويعتبرون أن ممارسة الكنيسة لدورها الوطنى أو لحقوقها القانونية كمؤسسة وطنية أو لدورها الحقوقى أو ممارسة رجل الدين لحقوقه السياسية كمواطن... يصفون كل هذا بأنه ممارسة للسياسة وهذا خطأ، وهذا غير صحيح، وهذا تضليل وتدليس.
خذ مثلا ما كتبه المستشار طارق البشرى فى كتابه quot; الجماعة الوطنية... العزلة والاندماجquot;، quot; وصرح الأنبا موسى لجريدة الحياة فى 16 ديسمبر 2004 أن حق الكنيسة قانونيا فى تقديم النصح لكل من يفكر فى إشهار إسلامه خشية أن يكون ذلك تحت ضغط أو ظروف نفسية أو عائلية أو اغراءات من أى نوعquot; ص 203. ويعلق المستشار البشرى على هذا الأقتباس بقوله quot; والسؤال الذى يمكن أن يثور الآن، إذا لم يكن هذا سياسة فما هى السياسة؟quot; ص 204
والأجابة ليست سياسة يا سيادة المستشار، فحق الكنيسة فى تقديم النصح والإرشاد لمن يرغب فى ترك مسيحيته بعيدا عن ضغوط وتهديدات رجال أمن الدولة للضحية هو حق مقرر منذ أكثر من 150 عاما، فهنا تمارس الكنيسة حقا ممنوحا لها من الدولة ولا تتعدى على القانون. وقد تم إلغاء جلسات النصح والإرشاد من طرف وزارة الداخلية بعد تحريض المستشار البشرى واصدقاؤه عقب واقعة وفاء قسطنطين رغم أن حق جلسات النصح والأرشاد كانت مقررة من الخديوى وليست من وزارة الداخلية، وهكذا تعدت الداخلية على حقوقا أساسية للكنيسة كانت مقررة من أكثر من 150 عاما من رأس الدولة أى تعدت على حق مقرر من اعلى سلطة وليست من وزير الداخلية.
والمستشار وصحبه يستكثرون مجرد النصح والأرشاد المحايد ويعتبرونه سياسة فى حين لا يستنكفون مطاردة وتعذيب من يترك الإسلام عن رغبة وأقتناع.. فهل هناك منطق أكثر اعوجاجا من هذ؟.أو بمعنى أصح لا منطق.
هناك حقوق سياسية لرجل الدين تتعلق بكونه مواطنا، وإذا تخلى عن حقوقه السياسية معناه تخليه عن مواطنته الحقيقية.
من حق رجل الدين أن يدلى باراءه السياسية كمواطن، وهى طبعا رأيه الخاص وغير ملزم لأحد. من حقه أيضا أن يحمل بطاقة إنتخابية ويصوت لمن يريده أن يمثله، ومن حقه أن يثقف نفسه سياسيا وأن يشارك بنشاط فى أداء واجباته الوطنية.
ولكن إذا أنضم رجل الدين إلى الأحزاب السياسية أو قبل وظيفة سياسية تنفيذية أو رشح نفسه فى المجالس التشريعية أوالمحلية، فهنا نقول أن رجل الدين يمارس السياسة، وممارسة السياسة حق له أيضا ولكنها غير مستحبة ومضرة ويجب أن تحكمها شروط واضحة مثل:
1-اراؤه السياسية ليست لها القداسة ولا تتصف بالحكمة والرشادة كما يدعون، وأنما هى اراء سياسية منها الرشيد وغير الرشيد والحكيم والمتهور..فهى فى النهاية اراء شخصية تخضع للصواب والخطأ.
2-اراؤه السياسية تعبر عن رأيه الشخصى فقط وليس عن رأى المؤسسة الدينية التى ينتمى اليها.
3-لا يدعى إنه يتحدث بأسم الله ولا يملك الحق المقدس ولا الحقيقة المطلقة.
وطبعا ثبت تاريخيا أن ممارسة رجال الدين للسياسة أضرارها أكثر من فوائدها
4-لا يرفع شعارات دينية ولا يستخدم دور العبادة للدعاية أو للدعوة السياسية، ولا يستخدم الدين بأى صور من الصور فى العمل السياسى.
5-يتحمل النقد ولا يظن أن كونه رجل دين يعطيه حصانة من النقد، فجزء أساسى من ضريبة العمل السياسى هو قبول النقد بصدر رحب. وأنا شخصيا لن اعطى صوتى لاى رجل دين فى اية انتخابات سواء كان مسيحيا أم مسلما.
وحسب علمى فان عدد رجال الدين الأقباط الذين مارسوا السياسة بهذا المعنى فى العقود الثلاثة الاخيرة أقل من صوابع اليد الواحدة وهم القمص بولس باسيلى عضو مجلس الشعب عن شبرا أيام السادات، والقمص صليب متى ساويرس من نفس الكنيسة، والأنبا كيرلس أسقف نجع حمادى والذى يقال إنه عضو فى الحزب الوطنى وقد كتب مقالة عجيبة أثناء الأنتخابات الرئيسية فى الأهرام تأييد للرئيس مبارك بعنوان quot; مبارك شعبى مصرquot; خالطا الدينى بالسياسى،والاخير هو القس فلوباتير الذى كان عضوا فى حزب الغد وعوقب كنسيا بناء على مقالة غير موفقة كتبها منتقدا تصريحات النائب العام فيما يتعلق بمسرحية كنيسة مار جرجس بمحرم بيه. أما الغالبية العظمى من رجال الدين الأقباط لا يمارسون السياسة ولا حتى الحقوق السياسية بل وينفرون من السياسة، ونحن نشكو من عدم تشجيعهم للعمل السياسى وليس العكس. وبالتالى فأن الحديث عن انخراط الكنيسة فى العمل السياسى هو نكتة أكثر منه حقيقة، فرجال الدين الأقباط مقصرون فى العمل السياسى وفى ممارسة حقوق المواطنة وفى الدفاع عن حقوق شعبهم، فكيف يتهمون بممارسة السياسة؟؟؟!!!
اما عن اندفاع الأقباط إلى داخل الكنائس فهذا يعبر عن نكسة وطنية مسئولة عنها الدولة والأحزاب وقوى المجتمع المدنى.ومسئول عنها النظام السياسى بالدرجة الأولى الذى لا يعطى للأقباط فرص للمشاركة الحقيقية فى العمل السياسى بدلا من إدانتهم بالتقصير، والأقباط لا يمارسون السياسة داخل الكنائس ولكن العبادة والأنشطة الاجتماعية، ولكن طالما هم داخل الكنيسة، وهى مؤسسة، فالطبيعى أن يكون لرجل الدين دورا أساسيا كأب روحى وكمسئول عن هذه الكنيسة... وهذا وضع طبيعى.
أما عن الدور الحقوقى لرجل الدين فهذا واجب على الكنيسة تجاه شعبها. وكل رجال الدين العظام مارسوا هذا الدور من الأسقف مكاريوس فى قبرص إلى الأسقف توتو فى جنوب افريقيا إلى القس مارتن لوثر كنج فى امريكا إلى البطريرك صفير فى لبنان إلى رجال الدين فى تيمور الشرقية، وقبل هؤلاء البابا يوحنا بولس الثانى الذى ظل يناضل من آجل وطنه بولندا ومن آجل كل العالم حتى تحرر من القهر الشيوعى وعمت الحريات الدينية فى اوروبا الشرقية.
والمراقبون الامناء يرون العكس، يرون أن هناك تقصيرا من الكنيسة القبطية فيما يتعلق بالتعبير عن آلام شعبها، وأن الكنيسة ورجالها حذرون جدا فى ممارسة هذا الدور الوطنى والدينى والأنسانى فى الدفاع عن حقوق شعبهم المهدرة وحذرهم هذا إنعكس على شعبهم.
إنه لشئ عجيب أن يهاجم قداسة البابا لمجرد تقديمه شكوى للرئيس مبارك بعد صبر طويل. والشئ الاعجب أن يصم النظام أذنيه عن سماع شكاوى الأقباط المتكررة ويهرب من تحمل مسئولياته الوطنية والدستورية فى الحفاظ على الوحدة الوطنية!. لمن يرفع البابا شكاوى شعبه إذن بعد أن سدت أمامهم السبل؟.
إن حملات الهجوم على الكنيسة وعلى قداسة البابا حملات تكسير وإفتراءات وحملات ظالمة تهدف إلى تركيع الأقباط وإسكات أصواتهم.
ولكن طوبى لمن يرفع صوت الحق والحقيقة عاليا، فالمسيح جاء ليشهد للحق. وليخرج الحق إلى النصرة... وعلى إسمه الذى هو الحق يكون رجاء الأمم.
[email protected]
- آخر تحديث :
التعليقات