كنت أتوقّع هذه الضربة لي. لكنهم فاجأوني وضربوا العائلة.
لم يخطر في بالي هذا الاحتمال. لو كان خطرَ، لكففتُ عن الكتابة فوراً. فليس من الحكمة أن تكون كاتباً على حساب عائلتك.
كنت أتوقع هذه الضربة. أتوقعها بالحدس وبالقرائن. فقد كُفّرتُ وخُوّنتُ من قبل فلسطينيين كثيرين [ بعضهم كُتاب كانوا أصدقاءً يوماً ما، وأسديتُ لهم حباً وخدمات ] لكنني كنت أنسى، مع أنّ حراجة أوضاعنا وتعقيدها لا يسمحان بترف النسيان.
غير أنّ هذا هو ما حصل.
ينسى الكاتب، في زحمة غفلته وسذاجته أحياناً، أعداءه المتربصين.
ومع ذلك، كنت أطمئن نفسي بأننا في فلسطين لا أفغانستان. أقول لها: كلا، ليس الأمر سيئاً إلى هذا الحدّ، فما أنا غير كاتب يقول كلمته ويمضي. لست سياسياً ولا صاحب تأثير، ولا خصماً لأحد. ثم: مَن يقرأ ؟ ومن إذا قرأَ يفهم المقروء ؟
غير أنّ هذا كان وهماً.. كانوا يقرأون وكانوا يحضّرون الضربة.
ولولا أنّ الأقدار سلّمت، لكنت فقدتُ أو نُكبتُ بأعز الناس على قلبي.
مساء ذلك الخميس الذي صار وشماً أسود على جدار القلب، لم أخرج لممارسة رياضة المشي كعادتي اليومية. والسبب جد بسيط: الرجل الذي أمشي معه (وهو بالمناسبة يعمل كفنّي أشعة ويهوى الأدب ] كان اعتذر في نهاية مشوار الأربعاء عن مشوار الغد، لانشغالات عائلية.
كل يوم، منذ 15 سنة، أخرج ما إن تغيب الشمس، لأتمشّى.
أخرج في توقيت محدد، وأعود للبيت بعد ساعتين ونصف الساعة، هي الوقت الذي أحتاجه لأمشي 7 كيلومترات، وأدخّن سيجارة تحت شجرة الجميز الشهيرة، الواقعة على مزلقان مدينة خانيونس.
أخرج في السابعة والنصف وأعود في العاشرة ليلاً.
كل أصدقائي من الأدباء يعرفون هذا، ومعظمهم إن لم يكن كلهم شاركوني مراراً في هذه الرياضة.
الأشباح، هم أيضاً يعرفون. لذا ضربوا ضربتهم في حوالي الثامنة، وقد ظنّوا أنني خارج البيت.
إنهم إذاً لا يريدونني شخصياً. بل يريدون ما هو أقسى وأنكى: كسر روحي، بقتل أو تشويه أفراد عائلتي، وزجّهم في لحظة الرعب دون حماية من أحد !
المهم، حدثَ ما حدث، وأنا الآن أنتظر نتائج التحقيق. فهل تستطيع حماس، بوصفها الحاكمة الآن، و(ذات القبضة الحديدية على كامل قطاع غزة، كما يفتخر أحد قادتها ) أن تصل إلى هؤلاء الأشباح ؟
لو كانت الحكاية حصلت قبل شهرين مثلاً، لقلنا وقال غيرنا: لا جدوى. فوضى وفلتان أمني. وبما أنّ كل هذا انتهى، فهل تستطيع حماس، أن تكشف حقيقة هؤلاء ؟
آمل ذلك وأتعلّق به بشدة. فهذا حقي وهو واجبها. فلكي يبرد قلبي، ولكي ينسى أفراد عائلتي لحظات الرعب الفائقة التي عاشوها، لا بد من كشف الجناة، وإلا فأنا أعيش في فم الذئب، سابقاً وحالياً. ومَن يحيا في فم الذئب، لا حاجة به للكتابة ولا لغيرها.
إنه فقط، مثل الحيوانات، يحتاج أن يحمي نفسه وأولاده.
يحتاج أن يأمن لا أن يفكر ويكتب.
فهل هذا ما يريده الفلسطينيون لكُتابهم ومثقفيهم في مطالع الألف الثالث ؟
أعرف أنّ الفلسطينيين يعيشون الآن لحظتهم المريضة. وأعرف أنهم أسرى هذه اللحظة بامتياز . أسرى منذ زمن وربما إلى زمن طويل قادم. كما أعرف أنهم تكالبوا على أنفسهم بعدما تكالب عليهم ظلمُ وعبثُ التاريخ.
ومع هذا، ثمة خطوط حمراء وثمة أصول، وثمة حد للجنون أيضاً. وإلا فلن تستقيم الحياة، ولن يرى المهزومون طاقة أمل.
وأخشى ما أخشاه أننا نمشي بالفعل في طريق بلا أمل.

أخيراً، لا بد من كلمة: لن أترك قطاع غزة، وسأظل مقيماً فيه. فقد مضى زمن الترحال وتغيير العتبات.
على هذه الأرض وُلدت، وتحت ترابها سأُدفن. ففلسطين وطني ولا وطن لي سواها. أما سواي فأرض الله واسعة أمامهم، وبإمكانهم، هم لا أنا، أن يغادروا أو يهاجروا. فهم لديهم وطن من فكرة، وهذا النوع من الأوطان لا يروق لي.
أنني أريد وطناً من بشر وترابٍ وأشجار وتاريخ. وطناً من مادةٍ يعني. ومن حسن حظي أنّ هذا الوطن موجود وقائم. حتى لو تعاوره الاحتلال وفقهاءُ العدم، وحتى لو أكلَ هو خيرة مُحبيه.
فأرجو أن تصلهم هذه الرسالة، مثلما وصلتني رسالتهم _ القنبلة.
أما الأعزّاء من كُتاب [وعلى رأسهم أخوتنا الكبار: عبد القادر الجنابي وحافظ البرغوثي و د. أحمد أبو مطر وراسم المدهون، الذين وقفوا معي في المحنة، بينما صمتت أغلبية كًتاب فلسطين في الداخل] فأقول لهم: هذا عهدي بكم، وأعجز عن شكركم ] وأما قرّاء العزيزة إيلاف، فأقول لهم: سلاماً ووداعاً، ولو إلى حين، إلى أن تنجلي الغمّة.