لم يجف الحبر الذي وقع به السيدان جلال طالباني ومسعود بارزاني الإتفاق الإسترايجي بين حزبيهما، حتى إنفجرت أزمة نسفت كل ثقة بمثل هذه الإتفاقات التي لا تخلو من شبه في القيمة بالمعاهدات الدولية التي كان صدام حسين يمزقها أمام شاشات التلفزيون على مرأى العالم.. فالأزمة المفتعلة بين السلطتين الإدارية والقضائية قبل عدة أيام في إقليم كردستان يفقد ما تبقى من ثقة المواطن بهذين الحزبين الحاكمين اللذين يعانيان من تراكم الأحقاد والضغائن وفقدان الثقة بينهما منذ عدة عقود، ويجمعهما اليوم زواج مصلحة بعد أن شعرا بفقدان ثقة الجماهير بهما جراء إستمرار مطحنة الأزمات المعيشية التي تطحن رؤوس الشعب الكردستاني.
وزير العدل في الإقليم (يمثل سلطة القضاء) التي يدعي سادتنا أنها مستقلة ومحترمة في الإقليم، يصدر قرارا بتعيين أحد موظفي دائرة أموال القاصرين مديرا للدائرة بعد شغور المنصب، فينبري السيد محافظ أربيل (يمثل السلطة الإدارية) ليس معترضا فقط على قرار هو من صلب صلاحيات الوزير، بل يمعن في الحقد فيرسل مفرزة مسلحة من أتباعه الى تلك الدائرة ليطرد موظفيها ويغلقها بالشمع الأحمر لأن له مرشح آخر لم يقبله الوزير مديرا لتلك الدائرة؟؟؟؟!!!!!!!!..
ويوغل سيادته في تصرفه اللامسؤول، وهو المسؤول الأول في المحافظة فيرسل مفرزة مسلحة أخرى من أعوانه الى منزل مدير إدارة الدائرة ليختطفوا إبنه في وضح النهار أمام مرأى ومسمع الناس مهددين والده بالإلتحاق بالدائرة وإلا فسيعرض حياة ولده للخطر؟؟!!.. فتتحول أزمة إدارية كان بالإمكان حلها في إطار مجلس الوزراء الى مهزلة المهازل بتلك التصرفات المشينة واللامسؤولة؟؟!!. ثم يعقد السيد الوزير وسيادة المحافظ مؤتمران صحفيان مضادان لنشر الغسيل القذر، فيدعي الوزير وهو من حزب طالباني، أنه يملك كامل الصلاحية لتعيين أي موظف ضمن حدود دوائر وزارته، ويدعي سيادة المحافظ وهو من حزب بارزاني، أنه رئيس الوحدة الإدارية في المحافظة، وله هذه الصلاحية التي لا يمتلكها الوزير، فتضيع هيبة الحكومة التي ينتمي إليها هذان السيدان المسؤولان؟!...
ذكرتني هذه الحادثة الأليمة بالنزاع الذي نشب بين نائب المدعي العام ومحامي عن المتهم متولي مرزوق، خليفة خلف الله المحامي الذي تولى الدفاع في قضية مقتل الرقاصة عنايات أبو سنة في مسرحية شاهد ما شفش حاجة عندما حاول عادل إمام أن يفض النزاع بينهما مقترحا عليهما الذهاب الى قسم الشرطة قائلا(كلنا حنروح القسم)؟؟!!..
فهذه الحادثة تعبر أيما تعبير عن مدى إيغال أعضاء الحزبين الحاكمين في كردستان بالحقد والكره بعضهما لبعض لا تشفع معهما لا إتفاقيات السلام الموقعة بينهما في تركيا ودروغيدا وواشنطن، ولا تفاهماتهما في مؤتمرات لندن وصلاح الدين، ولا حتى مشاركتهما بالشراكة في سلطتي بغداد وكردستان، ولا دمج حكومتي الإقليم، ولا حتى فسادهما المشترك على الصعيدين الحزبي والحكومي، فأصبحت الإتفاقية التي لم يجف حبرها بعد مجرد ورقة يكتبها عرضحالجي أمام محكمة ثم يرميها في سلة المهملات نتيجة خطأ مطبعي فاضح؟؟!!.
لقد خاض شعب كردستان مع هذين الحزبين تجارب مريرة وقاسية منذ بداية تسلطهما على رقابه.. فمنذ البداية وزعا المناصب الحكومية والبرلمانية بين أعضاء ومناصري حزبيهما مناصفة شديدة الدقة عرفت بصيغة ( الفيفتي فيفتي)، وأصبح لكل منهما صلاحيات مماثلة في الحكومة والبرلمان، الوكيل كالوزير، والمعاون كالمدير في الدائرة، وهي تجربة لا وجود لها في أي بقعة من العالم أن يتشارك حزبان كبيران في السلطة والبرلمان.. وأوغلوا في هذه الصيغة الممسوخة الى حد أن الوزير الإتحادي إذا عين عشر فراشين، ينبغي على الوزير الديمقراطي أن يعين عددا مماثلا.. وإذا عين الوزير الإتحادي خمس سكرتيرات رعاشات، يعين الوزير الديمقراطي نفس العدد وبنفس المواصفات من لون العينين والحواجب والشعر الغجري المجنون ؟؟!!
ولم يطل الأمر بتلك التجربة السخيفة حتى تفجرت الأحقاد بينهما فخاضا حربا داخلية ضروسة طالت لأربعة أعوام طحنت خلالها رؤوس الآلاف من الشباب الكردي، أراد الحزبان في نهايتها أن يغسلا أيديهما من مسؤولية تلك الحرب اللعينة بتقديم إعتذار خجول لدماء الضحايا الذين يسميهم الطرفان بـ(الشهداء) من دون تعويض أسرهم، ولا أدري أية شهادة نالها هؤلاء الضحايا وهم يتقاتلون على موارد كمرك معبر إبراهيم الخليل الحدودي ؟!.
لقد كانت الآمال معقودة بهذين الحزبين لتحقيق أماني الشعب بالتحرر والديمقراطية والمساواة وبالحياة الحرة الكريمة، ولكنهما خيبا كل تلك الآمال وقبروها الى الأبد، فتحول التحرير الى عبودية وتجويع، وتحولت الديمقراطية الى سجون ومعتقلات تمارس فيها شتى أساليب التعذيب حسب التقارير الدولية،وتحولت المساواة الى تساوي الفاسدين في نهب خيرات البلد، أما الحياة الحرة الكريمة، فقد تحولت الى جوع وفاقة وبيع الأعراض من أجل الأقوات!!..
آخر الآمال كانت الإتفاقية الإستراتيجية التي مهد لها الزعيمان بارزاني وطالباني، بتصريحات ووعود تبشر بالخير في تجاوز تلك الأزمات، وكانت تشكل بصيص أمل بقيام القائدين بتحرك جدي للقضاء على الفساد المستشري كما أكدا ذلك مرارا في تصريحاتهما الرسمية، والبدء بعملية إعادة هيكلة الحكومة وتوحيد وزاراتها، وإشاعة روح التعاون والتآلف بين القواعد الحزبية بعد إستشعارهما للخطر الشعبي، ولكن حتى هذا البصيص من الأمل قد خفت بعد حادثة وزير العدل ومحافظ أربيل والتي تجلى فيها كل أشكال الحقد والبغضاء بين الفريقين، وإستحالة التعايش بينهما على أرض واحدة مهما كانت المخاطر والتحديات..

[email protected]